عن العاصي وسهرة النار وزهور العطش
شوقي بزيع (السفير 22/8/2008)
الرحلة الى نهر العاصي تستحق بكل المقاييس العناء الذي يبذله المرء على الطريق الخطر والطويل الذي يفصل بين بيروت ومدينة الهرمل في أقاصي البقاع الشمالي. ليس فقط لأن هذا النهر يسير من الجنوب الى الشمال وفي الاتجاه المعاكس لمجرى الأنهار في لبنان، بل لأنه الأكثر غزارة واندفاعا وحيوية بين أترابه، بحيث يشعر القادم الى ضفافه بأنه لا يقف إزاء ساقية هزيلة وسقيمة، غالبا ما تجف في الصيف، بل إزاء نهر حقيقي يجمع بين ضفتيه عنصري الحياة والموت، ولا يتردد في خطف أنفاس أولئك الذين لا يحسنون السباحة أو يخطئون في تقدير اندفاعته الهائجة باتجاه المصب. لا بل إن عبارة »فحول المياه« التي أطلقها العرب مجازا على السيول والمجاري الغزيرة تجد تحققها الأمثل من خلال هذا النهر الذي غناه العديد من الشعراء والذي ما يزال في شقه السوري يردد مع النواعير الأصداء المشبعة بالشجن لقصائد ديك الجن الحمصي وهو يبكي بحرقة على أطلال »ورد« التي قتلها بيديه في سورة غضب عارمة.
المسافة بين بيروت والهرمل تستغرق ما لا يقل عن ثلاث ساعات كاملة، يقطعها المسافر صيفا تحت شمس قاسية الهجير وفوق طرق ملتوية وكثيرة المنعطفات في ثلثها الأول، بينما يحفل الثلثان الآخران بالحفر والمطبات والمفاجآت غير المحسوبة التي لا تنهي مفاعيلها إلا قبيل الوصول بقليل، حيث يجد المرء نفسه بغتة أمام طريق معبدة وواسعة وحسنة التخطيط. ولأن ثمة من نصــحنا بتجنب زيارة النهر أيام الآحاد التي تكون في العادة مكتــظة بــالآلاف من السياح والمتنزهين وأبناء المدينة والمنــطقة، فقد اخترنا للزيارة يوما آخر مجاورا هو يوم السبت، حيث كان المنتزه الذي قررنا الجلوس اليه خاليا تقريبا باستــثناء طاولــة مجاورة لطاولتنا تضم عددا من الشبان الملتحين والشــابات المحجبات اللواتي لم يمنعهن الحجاب من المشـاركة في رقصــة الدبكة بعد حين أو التمايل على إيقاع الأغانــي الشـعبية التي كان صاحب المقهى قد أعدها لمثل هذه المناسبة.
يبدو مجرى العاصي مختلفا في العديد من وجوهه عن شقيقه الآخر، الليطاني. ليس فقط بفارق الغزارة والاندفاع بل بسبب المفارقة القائمة بينه وبين محيطه. ففيما الليطاني، وبخاصة في منطقة المصب، يبدو متواريا وضائعا وسط سهول البرتقال والموز ومساحات الخضرة الشاسعة التي تحيط به، يتراءى العاصي عن بعد شبيهاً بقافلة نحيلة من الاخضرار تتوسط الجانب الجاف والصحراوي من سهل البقاع. فخارج الأشجار الداكنة الخضرة المحيطة بمجرى النهر، ليس ثمة سوى بخار اللهيب الصاعد من الأرض العطشى، وبعض المزارع النادرة التي انتزعها بعض النافذين لأنفسهم بفعل السطوة والاقتدار والولاء السياسي لمن في يدهم مقاليد الأمور. أما المنشآت القليلة التي تلمحها على يسار الطريق، والتي تبدو معطلة وشبيهة بالخردة، فما تلبث أن تجد من يخبرك بأنها »رفات« المنشآت التي كان يجب أن يتحقق من خلالها حلم الأهالي المزمن بقيام سد العاصي.
السباحة
لم يكن ممكنا لشخص يعشق السباحة منذ نعومة أظفاره مثلي أن يفوّت على نفسه فرصة السباحة في نهر العاصي. صحيح أن السباحة في هذا النهر الهائج تختلف كثيرا عن مثيلاتها في السواقي الصغيرة التي كانت تحيط بطفولتي المبكرة في الجنوب، وتختلف بصورة أكبر عن السباحة في البحر التي تبدو بالقياس الى العاصي لعبة بسيطة وآمنة، ولكن هذا الأمر بالضبط هو ما ضاعف من رغبتي في اختبار ما بقي لي من فتوّة ونشاط جسماني وسط تلك المياه الشديدة البرودة والمندفعة بضراوة الى الأمام، بحيث تتطلب مماشاتها أو مقاومتها لا مهارة استثنائية في العوم فحسب، بل براعة مماثلة في مراوغة المياه وتجنب الوقوع في دواماتها الخطرة. ولم تكن السباحة وحدها هي ما يتيحه العاصي لزائريه، بل كان ثمة رياضة أخرى أكثر متعة وتشويقا هي رياضة عبور النهر من خلال الزوارق المطاطية التي لم تكف عن التوافد خلال وجودنا هناك. وعلى متن تلك الزوارق كان ثمة شبان وفتيات يعتمرون الخوذات ويرتدون ثيابا خاصة للمناسبة ويمارسون التجذيف على وقع الصرخات المتلاحقة التي يطلقها قائد الرحلة ودليلها المتمرس.
كانت المصادفة وحدها هي التي قادتني بعد ذلك الى تجربة أخرى أكثر غرابة وتشويقا من تلك التي حدثت في كنف النهر. فقد عرفت عن طريق صديق مشترك بأن بومدين الساحلي، مراسل »السفير« في البقاع الشمالي، قد رجع خائبا من رحلة عمل قصيرة الى نيجيريا وعاد الى الهرمل. وما إن تم اللقاء مع بومدين، الذي أطلق عليه والده هذا الاسم تيمنا بالرئيس الجزائري السابق، حتى كان هذا الأخير يحثني على الصعود برفقته الى جرود الهرمل حيث سبق له أن أنشأ مع صديق له مؤسسة صغيرة للسياحة البيئية في الجانب الشرقي من الجرد المعروف بجرد آل دندش. وحيث لم يكن بمستطاعي أن أرفض ذلك العرض المغري صعدنا معا، بومدين وأنا، في سيارته المرسيدس المتهالكة، قاطعين الطريق الجديدة وغير المكتملة التي تصل الهرمل بطرابلس والتي يمكن حين إنجازها أن توفر على السكان عناء الطرق الالتفافية البعيدة التي تفصل بين محافظتي البقاع والشمال. وقبل أن نصل الى منطقة بويب ـ سمية النهر الذي خلده بدر شاكر السياب بقصائده ـ كان علينا أن نقطع وادي »راس المال«، الذي اكتسب اسمه »الماركسي« من ثرائه بالينابيع، ووادي الكرم الغني باللوز والكرز وغيرهما من الأشجار المثمرة. غير أن الزعامة الفعلية في تلك الجرود الشاسعة كانت قد انعقدت لأشجار اللزاب وحدها دون منازع. وقد يكون هذا النوع من الأشجار المعمرة، الذي يعود بعضه الى أكثر من خمسة آلاف عام والذي يمكن له أن يعيش على ارتفاع شاهق يناهز الألفين وثمانمئة متر، هو الوحيد الذي ينافس شجر الأرز في الزمان والمكان، ويستحق بالتالي المطالبة بأن يكون بديله المرفرف على قماشة العلم!
كانت الليلة التي قضيناها في ضيافة »مشروع اللزاب للسياحة البيئية« نادرة واستثنائية بكل المقاييس. فالساحلي ودندش، القيّمان على المشروع، أعدّا لضيوفهما الوافدين عددا من الغرف المجهزة بكل ما يلزم الزائر من حاجات أولية، بدءا من المراحيض النظيفة والماء والفراش والأغطية السميكة التي تقي من البرد، وحتى الانارة التي تتغذى من الطاقة الشمسية. لقد أريد لكل شيء أن يكون طبيعيا و»بعليا« هناك. لذلك، ولكي يظل الزائرون بمنأى عن التلوث البصري والقلق والصداع، فقد خلت الغرف السبع وقاعتا الطعام والجلوس الواسعتان من أي مذياع أو شاشة تلفاز. لكن الأطرف من ذلك أن بومدين أصر على خلو المكان برمته من المرايا، بحيث لا يتمكن الزائر من رؤية وجهه أو تسريح شعره وإصلاح هندامه. كما لو ان الغاية من ذلك هي نسيان الأنا الملوثة بفساد العالم المديني والتماهي مع الطبيعة في صورتها البكر. ولا بد للمرء في هذه الحالة أن يتذكر رواية »زئبق« للكاتبة الفرنسية إميلي نوتومب، حيث يحتجز بطل الرواية العجوز الصبية الفاتنة التي أنقذها من الحرب في إحدى الجزر النائية، محطما كل المرايا الموجودة في المبنى كي لا تتعرف الى حقيقة جمالها، بعدما أوهمها بأن وجهها قد تشوّه في الحرب.
يصعب على قاصدي المكان زواره أن يتلافى أحدهم الآخر. لذلك كان لا بد من تقاسم الطعام والجلوس مع المجموعة السياحية التي قدمت الى هناك والتي ينتمي أفرادها الشبان الى احدى الجمعيات المدنية الناشطة. على ان أهم ما في تلك الليلة كانت سهرة النار التي انعقدت في الهواء الطلق للمسامرة والأنس وللتخفيف من برودة الجرود المتصاعدة. هناك كنا نحدق في نجوم غزيرة وواطئة وشديدة اللمعان. نجوم لا أذكر أنني رأيتها بهذه الكثافة والحجم منذ زمن الطفولة، بحيث جعلتني أستعيد ما قاله الشاعر البدوي وهو يرى في صحرائه النائية نجوما مماثلة »وبت أرى الكواكب دانيات/ تطال أنامل الرجل القصير/ أدافعهنَّ بالكفَّين عني/ وأمسح غرَّة القمر المنير/. واذ بدا فارق السن بين الساهرين حائلا حقيقيا دون وجود لغة جامعة ومشتركة، كانت مريم بلحص، الناشطة الاجتماعية القادمة من الجنوب، بما تملكه من ثقافة وحيوية وذكاء، هي لولب الأحاديث ومحط أنظار الجميع حتى الساعات الأولى من فجر يوم الأحد.
الماراتون الأسبوعي
صبيحة اليوم التالي، كانت تنتظرني مفاجأة ثالثة أكثر غرابة وإمتاعا، وقسوة أيضا، من المفاجأتين الأخريين: السباحة في النهر وسهرة النار تحت النجوم. وإذ انضم الى الحضور الطبيب أنور علوه ومرافقه ابراهيم خزعل، طلبا إلي أن أرافقهما في »الماراتون« الأسبوعي الذي يقومان به صبيحة كل أحد، قاطعين المسافة بين مشروع اللزاب ووادي فعرة الواقع عند سفوح القرنة السوداء سيرا على الأقدام. ترددت في قبول الدعوة بالطبع وأنا أقيس بالمخيلة حجم ما ينتظرني من مشقات وأهوال. ولكن حماسة مريم للانضمام الى المسيرة جردتني من أية ممانعة ووضعني في حالة وسط بين الخجل من الرفض وبين الحماسة الشديدة لاقتفاء خطى تلك الفتاة الممشوقة القوام التي راحت بعد ذلك تهرول كالمهرة البرية أمام الرجال الثلاثة الذين يمشون في إثرها على الطرق الوعرة. كانت الطريق الى وادي فعرة تطول وتطول، فيما تترامى على الجانبين بعض حقول الحشيشة التي لا قِبل، أو لا رغبة، لقوى السلطة بالوصول اليها، وكان علينا أن نقطع أكثر من أربعة وعشرين كيلومترا على طريق الذهاب والاياب الى ذلك الوادي السحيق الذي تلتمع من فوقه شمس البقاع الحارقة وبعض المثلثات الثلجية الصغيرة التي ما تزال عصية على الذوبان فوق أعلى قمة من قمم لبنان.
خمس ساعات كاملة من السير في الظهيرة العارية كانت كافية للإجهاز على ما ادّخرناه داخلنا من طاقة أو عزيمة. وحيث لم يعد ثمة إحساس ملموس بالجسد وفضائه الخارجي، اندلعت أمامنا فجأة تلك الزهور الفضية الصغيرة التي ترفع الى الأعلى أصابع خمساً شبيهة بأصابع الانسان. كان للزهور لمعان يشبه لمعان الماء. لكن المزيد من التحديق فيها يؤكد أن ما حسبناه ماء ليس سوى شكل من أشكال السراب الذي يراه الظامئون المتهالكون في الصحراء. ليكن اسمها اذاً: زهور العطش، قلت في سريرتي. ثم اندفعت عند الوصول الى الماء الذي بحوزتي أعبه بنهم حتى القطرة الأخيرة.
شوقي بزيع (السفير 22/8/2008)
الرحلة الى نهر العاصي تستحق بكل المقاييس العناء الذي يبذله المرء على الطريق الخطر والطويل الذي يفصل بين بيروت ومدينة الهرمل في أقاصي البقاع الشمالي. ليس فقط لأن هذا النهر يسير من الجنوب الى الشمال وفي الاتجاه المعاكس لمجرى الأنهار في لبنان، بل لأنه الأكثر غزارة واندفاعا وحيوية بين أترابه، بحيث يشعر القادم الى ضفافه بأنه لا يقف إزاء ساقية هزيلة وسقيمة، غالبا ما تجف في الصيف، بل إزاء نهر حقيقي يجمع بين ضفتيه عنصري الحياة والموت، ولا يتردد في خطف أنفاس أولئك الذين لا يحسنون السباحة أو يخطئون في تقدير اندفاعته الهائجة باتجاه المصب. لا بل إن عبارة »فحول المياه« التي أطلقها العرب مجازا على السيول والمجاري الغزيرة تجد تحققها الأمثل من خلال هذا النهر الذي غناه العديد من الشعراء والذي ما يزال في شقه السوري يردد مع النواعير الأصداء المشبعة بالشجن لقصائد ديك الجن الحمصي وهو يبكي بحرقة على أطلال »ورد« التي قتلها بيديه في سورة غضب عارمة.
المسافة بين بيروت والهرمل تستغرق ما لا يقل عن ثلاث ساعات كاملة، يقطعها المسافر صيفا تحت شمس قاسية الهجير وفوق طرق ملتوية وكثيرة المنعطفات في ثلثها الأول، بينما يحفل الثلثان الآخران بالحفر والمطبات والمفاجآت غير المحسوبة التي لا تنهي مفاعيلها إلا قبيل الوصول بقليل، حيث يجد المرء نفسه بغتة أمام طريق معبدة وواسعة وحسنة التخطيط. ولأن ثمة من نصــحنا بتجنب زيارة النهر أيام الآحاد التي تكون في العادة مكتــظة بــالآلاف من السياح والمتنزهين وأبناء المدينة والمنــطقة، فقد اخترنا للزيارة يوما آخر مجاورا هو يوم السبت، حيث كان المنتزه الذي قررنا الجلوس اليه خاليا تقريبا باستــثناء طاولــة مجاورة لطاولتنا تضم عددا من الشبان الملتحين والشــابات المحجبات اللواتي لم يمنعهن الحجاب من المشـاركة في رقصــة الدبكة بعد حين أو التمايل على إيقاع الأغانــي الشـعبية التي كان صاحب المقهى قد أعدها لمثل هذه المناسبة.
يبدو مجرى العاصي مختلفا في العديد من وجوهه عن شقيقه الآخر، الليطاني. ليس فقط بفارق الغزارة والاندفاع بل بسبب المفارقة القائمة بينه وبين محيطه. ففيما الليطاني، وبخاصة في منطقة المصب، يبدو متواريا وضائعا وسط سهول البرتقال والموز ومساحات الخضرة الشاسعة التي تحيط به، يتراءى العاصي عن بعد شبيهاً بقافلة نحيلة من الاخضرار تتوسط الجانب الجاف والصحراوي من سهل البقاع. فخارج الأشجار الداكنة الخضرة المحيطة بمجرى النهر، ليس ثمة سوى بخار اللهيب الصاعد من الأرض العطشى، وبعض المزارع النادرة التي انتزعها بعض النافذين لأنفسهم بفعل السطوة والاقتدار والولاء السياسي لمن في يدهم مقاليد الأمور. أما المنشآت القليلة التي تلمحها على يسار الطريق، والتي تبدو معطلة وشبيهة بالخردة، فما تلبث أن تجد من يخبرك بأنها »رفات« المنشآت التي كان يجب أن يتحقق من خلالها حلم الأهالي المزمن بقيام سد العاصي.
السباحة
لم يكن ممكنا لشخص يعشق السباحة منذ نعومة أظفاره مثلي أن يفوّت على نفسه فرصة السباحة في نهر العاصي. صحيح أن السباحة في هذا النهر الهائج تختلف كثيرا عن مثيلاتها في السواقي الصغيرة التي كانت تحيط بطفولتي المبكرة في الجنوب، وتختلف بصورة أكبر عن السباحة في البحر التي تبدو بالقياس الى العاصي لعبة بسيطة وآمنة، ولكن هذا الأمر بالضبط هو ما ضاعف من رغبتي في اختبار ما بقي لي من فتوّة ونشاط جسماني وسط تلك المياه الشديدة البرودة والمندفعة بضراوة الى الأمام، بحيث تتطلب مماشاتها أو مقاومتها لا مهارة استثنائية في العوم فحسب، بل براعة مماثلة في مراوغة المياه وتجنب الوقوع في دواماتها الخطرة. ولم تكن السباحة وحدها هي ما يتيحه العاصي لزائريه، بل كان ثمة رياضة أخرى أكثر متعة وتشويقا هي رياضة عبور النهر من خلال الزوارق المطاطية التي لم تكف عن التوافد خلال وجودنا هناك. وعلى متن تلك الزوارق كان ثمة شبان وفتيات يعتمرون الخوذات ويرتدون ثيابا خاصة للمناسبة ويمارسون التجذيف على وقع الصرخات المتلاحقة التي يطلقها قائد الرحلة ودليلها المتمرس.
كانت المصادفة وحدها هي التي قادتني بعد ذلك الى تجربة أخرى أكثر غرابة وتشويقا من تلك التي حدثت في كنف النهر. فقد عرفت عن طريق صديق مشترك بأن بومدين الساحلي، مراسل »السفير« في البقاع الشمالي، قد رجع خائبا من رحلة عمل قصيرة الى نيجيريا وعاد الى الهرمل. وما إن تم اللقاء مع بومدين، الذي أطلق عليه والده هذا الاسم تيمنا بالرئيس الجزائري السابق، حتى كان هذا الأخير يحثني على الصعود برفقته الى جرود الهرمل حيث سبق له أن أنشأ مع صديق له مؤسسة صغيرة للسياحة البيئية في الجانب الشرقي من الجرد المعروف بجرد آل دندش. وحيث لم يكن بمستطاعي أن أرفض ذلك العرض المغري صعدنا معا، بومدين وأنا، في سيارته المرسيدس المتهالكة، قاطعين الطريق الجديدة وغير المكتملة التي تصل الهرمل بطرابلس والتي يمكن حين إنجازها أن توفر على السكان عناء الطرق الالتفافية البعيدة التي تفصل بين محافظتي البقاع والشمال. وقبل أن نصل الى منطقة بويب ـ سمية النهر الذي خلده بدر شاكر السياب بقصائده ـ كان علينا أن نقطع وادي »راس المال«، الذي اكتسب اسمه »الماركسي« من ثرائه بالينابيع، ووادي الكرم الغني باللوز والكرز وغيرهما من الأشجار المثمرة. غير أن الزعامة الفعلية في تلك الجرود الشاسعة كانت قد انعقدت لأشجار اللزاب وحدها دون منازع. وقد يكون هذا النوع من الأشجار المعمرة، الذي يعود بعضه الى أكثر من خمسة آلاف عام والذي يمكن له أن يعيش على ارتفاع شاهق يناهز الألفين وثمانمئة متر، هو الوحيد الذي ينافس شجر الأرز في الزمان والمكان، ويستحق بالتالي المطالبة بأن يكون بديله المرفرف على قماشة العلم!
كانت الليلة التي قضيناها في ضيافة »مشروع اللزاب للسياحة البيئية« نادرة واستثنائية بكل المقاييس. فالساحلي ودندش، القيّمان على المشروع، أعدّا لضيوفهما الوافدين عددا من الغرف المجهزة بكل ما يلزم الزائر من حاجات أولية، بدءا من المراحيض النظيفة والماء والفراش والأغطية السميكة التي تقي من البرد، وحتى الانارة التي تتغذى من الطاقة الشمسية. لقد أريد لكل شيء أن يكون طبيعيا و»بعليا« هناك. لذلك، ولكي يظل الزائرون بمنأى عن التلوث البصري والقلق والصداع، فقد خلت الغرف السبع وقاعتا الطعام والجلوس الواسعتان من أي مذياع أو شاشة تلفاز. لكن الأطرف من ذلك أن بومدين أصر على خلو المكان برمته من المرايا، بحيث لا يتمكن الزائر من رؤية وجهه أو تسريح شعره وإصلاح هندامه. كما لو ان الغاية من ذلك هي نسيان الأنا الملوثة بفساد العالم المديني والتماهي مع الطبيعة في صورتها البكر. ولا بد للمرء في هذه الحالة أن يتذكر رواية »زئبق« للكاتبة الفرنسية إميلي نوتومب، حيث يحتجز بطل الرواية العجوز الصبية الفاتنة التي أنقذها من الحرب في إحدى الجزر النائية، محطما كل المرايا الموجودة في المبنى كي لا تتعرف الى حقيقة جمالها، بعدما أوهمها بأن وجهها قد تشوّه في الحرب.
يصعب على قاصدي المكان زواره أن يتلافى أحدهم الآخر. لذلك كان لا بد من تقاسم الطعام والجلوس مع المجموعة السياحية التي قدمت الى هناك والتي ينتمي أفرادها الشبان الى احدى الجمعيات المدنية الناشطة. على ان أهم ما في تلك الليلة كانت سهرة النار التي انعقدت في الهواء الطلق للمسامرة والأنس وللتخفيف من برودة الجرود المتصاعدة. هناك كنا نحدق في نجوم غزيرة وواطئة وشديدة اللمعان. نجوم لا أذكر أنني رأيتها بهذه الكثافة والحجم منذ زمن الطفولة، بحيث جعلتني أستعيد ما قاله الشاعر البدوي وهو يرى في صحرائه النائية نجوما مماثلة »وبت أرى الكواكب دانيات/ تطال أنامل الرجل القصير/ أدافعهنَّ بالكفَّين عني/ وأمسح غرَّة القمر المنير/. واذ بدا فارق السن بين الساهرين حائلا حقيقيا دون وجود لغة جامعة ومشتركة، كانت مريم بلحص، الناشطة الاجتماعية القادمة من الجنوب، بما تملكه من ثقافة وحيوية وذكاء، هي لولب الأحاديث ومحط أنظار الجميع حتى الساعات الأولى من فجر يوم الأحد.
الماراتون الأسبوعي
صبيحة اليوم التالي، كانت تنتظرني مفاجأة ثالثة أكثر غرابة وإمتاعا، وقسوة أيضا، من المفاجأتين الأخريين: السباحة في النهر وسهرة النار تحت النجوم. وإذ انضم الى الحضور الطبيب أنور علوه ومرافقه ابراهيم خزعل، طلبا إلي أن أرافقهما في »الماراتون« الأسبوعي الذي يقومان به صبيحة كل أحد، قاطعين المسافة بين مشروع اللزاب ووادي فعرة الواقع عند سفوح القرنة السوداء سيرا على الأقدام. ترددت في قبول الدعوة بالطبع وأنا أقيس بالمخيلة حجم ما ينتظرني من مشقات وأهوال. ولكن حماسة مريم للانضمام الى المسيرة جردتني من أية ممانعة ووضعني في حالة وسط بين الخجل من الرفض وبين الحماسة الشديدة لاقتفاء خطى تلك الفتاة الممشوقة القوام التي راحت بعد ذلك تهرول كالمهرة البرية أمام الرجال الثلاثة الذين يمشون في إثرها على الطرق الوعرة. كانت الطريق الى وادي فعرة تطول وتطول، فيما تترامى على الجانبين بعض حقول الحشيشة التي لا قِبل، أو لا رغبة، لقوى السلطة بالوصول اليها، وكان علينا أن نقطع أكثر من أربعة وعشرين كيلومترا على طريق الذهاب والاياب الى ذلك الوادي السحيق الذي تلتمع من فوقه شمس البقاع الحارقة وبعض المثلثات الثلجية الصغيرة التي ما تزال عصية على الذوبان فوق أعلى قمة من قمم لبنان.
خمس ساعات كاملة من السير في الظهيرة العارية كانت كافية للإجهاز على ما ادّخرناه داخلنا من طاقة أو عزيمة. وحيث لم يعد ثمة إحساس ملموس بالجسد وفضائه الخارجي، اندلعت أمامنا فجأة تلك الزهور الفضية الصغيرة التي ترفع الى الأعلى أصابع خمساً شبيهة بأصابع الانسان. كان للزهور لمعان يشبه لمعان الماء. لكن المزيد من التحديق فيها يؤكد أن ما حسبناه ماء ليس سوى شكل من أشكال السراب الذي يراه الظامئون المتهالكون في الصحراء. ليكن اسمها اذاً: زهور العطش، قلت في سريرتي. ثم اندفعت عند الوصول الى الماء الذي بحوزتي أعبه بنهم حتى القطرة الأخيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق