2019/12/16

عن شهيد من الهرمل.. صاغ الشمس

تأليف: أمل خير حمية
صياغة لغوية: شيرين خير حمية
تتسلّق الشمس بكامل وهجها قرص السّماء مسدلة ضفائرها الذّهبية غدائر نور ودفء على أرجاء الهرمل فتتسلّل متغلغلة بين وريقات الشّجر مخترقة أفياءها الملقاة علىجدران المنازل ونوافذها .
السّكون يخيم على "بديتا" ذاك الحي الوادع يمزّقه بين حين وحين زقزقة بعض العصافير اللاّئذة من حرّ الصّيف أو خرير ساقية في انسيابها ملتوية بين البيوت ما يزيد من وداعة المكان ويغمر منزل "أبو كمال ناصر الدين " بجوٍّ من الهدوء الكئيب والصّمت الرّتيب تقطع وتيرته نسمة هواء تلثم مجموعة الصّور الفوتوغرافية التي نشرتها "أسماء "امامها لتبحر في ذاكرتها بعيداً وتمخر عباب الماضي على أشرعة
حزنها ...
تطالعها صورة شابّين يضع كل منهما يده على كتف الآخر بودٍّ ظاهر يشعّ الحماس والإندفاع وهجاً وحياةً في عينيهما ومسحة من نور تغمر وجهيهما، كما تهيّأ
لها .
تلتقطها بتشنّج واضح فيقفز قلبها بين ضلوعها وتتوثّب المرارة إلى حلقها غصّة تجهد في حبسها فتسبقها دمعتان تتحجّران في مقلتيها الشّاخصتين إلى الصّورة وإلى العزيزين "كمال" و"كمال "
-"يرحمكما الله":وتزدرد حرقتها كمن يكابر أو كأنّها تغبطها. تشدّ بأصابعها على الصّورة كأنّها تخشى أن تتفلّت منها الذّكريات ...
كلاهما كان اسمه "كمال" ! ترى أيٌّ منهما كان له الأثر الأكبر في حياتها ؟ شقيقها أم زوجها ؟ حتمًا أحدهما جرّ قدرها إلى الآخر .
هل كان تشابه الإسم مصادفة؟ أم هل كان تقاطع مسيرٍ وصل بها إلى هذه اللّحظة ؟
تنفث ضيقها في تنهيدة عميقة وتحوّل نظرها إلى مجموعة صور لشقيقها كمال .
تقفز بها الذاكرة إلى طفولتها البعيدة حيث تتذكر جيداً يوم رتّبها أمامه على الأرض وناداها :
-أسما ،أيّ صورة أجمل؟ حتى ترفعوها إذا استشهدت.
لم تع في تلك اللّحظة في غمرة ذهولها الطّفولي ما كان يعني .
أدركت لاحقاً أنه كان يرسم في خياله مسيرًا محدّدًا سيغيّر لأهل الدّار مجرى حياتهم ويخطّط مسارهم في درب ذات الشّوكة .
لم تعرف يومها بانها قد تكون أكثر من سيتجرّع من كاس الصّبر حتى الثّمالة وأنّ كمال ترك بصمته في حياتها إلى آخر العمر ...
تشعر بشيءٍ من الإحجاف تجاه زوجها الشّهيد كمال فتبحث في صورة له . تمسكها بكثير من الحرص .تتحسّس تفاصيلها بأناملها .تعيد بنظرها رسم تقاسيم
الوجه .
تقرّبها من صدرها ناحية القلب .ترنو إليها بعتابٍ وشوقٍ وكأنّها تخاطبه:
"-جاءني طيفك .يرودني كلّ يومٍ.
يكفكف دمع آلامي .
يحمل احلامي الذابلة إلى غربة اللقاء .
طيفك يعذّبني ويكبّلني بالذّكريات فأعود إلى قبرك ،إلى حيث ترقد هانئًا والكثير من العذاب يتقاذفني .
فأغبطك وتخنقني عبرتي .
تركتني أتخبّط في رياح أحداثي وأحمل أمانة تثقل أفكاري ،أنوء في حملي ...أزحف كل يوم نحو الغروب .
أرى شمس أيامنا الغابرة تغرق في بحر غيابك .
وانا وحدي على شاطئ العمر أبني قصور الرمال واهدمها .
أذرف لوعتي غصصًا ...
رسمنا معًا حدود مستقبلٍ يجمعنا ،فإذا بك تجمع حقائب العمر وترحل ! ...وحيدًا.
تكتفي بلحدٍ يحوي جثمانك .وأنا ؟
مشغولة بلملمة الجراح !
كم كان كبيرا حلمنا :كم اتّسعت آفاقه في مقلتي ّ!
وإذ أنت تغمض في لحظة عينيك وترحل فيتقلّص الحلم ويتلاشى الضياء .
أنا وحدي أرثي فؤادًا فارغ الأرجاء .
أنسج من بقايا أكفانك منديلاً أمسح به عمق آلامي.
أذوب في حزني .
أسافر في رحلة الذهول .
أين أنا ؟
أحبو أمام ترابك .أشدّ على حفنة منه بين أصابعي فتتفلّت حبيبات التّراب وإذ بيدي فارغة من كلّ شيءٍ إلاّ من تشنّج وتأوّه وبكاء ...
هكذا تركتني .أنقاض أنسانٍ، بل هيكلاً متثاقلاً يسير بشبابه إلى الأجل ،
وبانتظار ذلك الحين ازدرد حرقًا تفتّت أحشائي وتؤلمني وتطرق مخيّلتي بكثير من الجراح ..."
شعرت بتوق دفين يشدّها إلى الماضي ،إلى الأيّام البعيدة وأحسّت برغبةٍ تدفعها لتمعن في كلّ لحظة فيها .ربّما لتتزوّد ممّا افتقدته أو لتنهل ما يقوّيها ويشحنها بمزيد من الصّبر لرحلة الأيّام القادمة .
تترك لنفسها أن تسترسل في سفرة الذكريات فتقفز إلى ذهنها صورة الوالدة معاتبة حزينةً بعينين دامعتين ووجهٍ حوت طيّاته كثيرًا من الألم واللّوعة .
تعود بها كرّة الأيّام إلى دهاليز الذّاكرة المعتمة التّي طواها تراكم الزّمن .تقودها إلى أيّام طفولتها ،إلى الثّمانينات، إلى عمرٍ حمل لها عمرًا مختلفًا آخر ومحطّات غيّرت وجهة حياتها فاحتفظت منها بحفنةٍ من صور تعود إليها كلّما عنّت لها خاطرة وجال دمع في عينيها ونبتت غصّة في حلقها واستعر شوق في فؤادها ...
2
تضيق حدود الزّمان في ذاكرتها لتنتقل في إغماضة جفن وإطراقة رأس إلى أيّام خلت على مفترق خطّ لها ولوالدتها مسارًا كلّفها الكثير من الدّمع والإلتياع واللّهفة في درب دفعتا فيه أغلى ما تدفعه أمٌّ وأختٌ وزوجة .
تحاول "أسماء" أن تنسج خيوط حكايتها بمعزل عن حكاية أمّها ولكنّ تتقاطع الأحداث وتتشابك حتى أن ّ نهاية إحداهما رسمت بداية الأخرى .
بلحظة تطوي "أسماء"الأحداث لتفردها على بساط ذاكرة ٍمتعبةٍ أدماها القدر .ترنو إلى نفسها ماردةً بصلابتها تصارع رياح الأقدار تتقاذفها ،تقاوم ،تنتصب بوجه الانواء ،تسحق الضّعف بعزم استقته من سير الأطهار .
تستسلم آناً لإنسانيتها ،لرقّة في قلبها فتلجأ للذّكريات ،لمرايا الزّمن العابر تعكس تداعيات الماضي في حاضرها ،في كلّ خطوة وكلّ فكرة غصصًا حيناً وحينًا
باعتزاز .
امتطت "أسما" حصان شوقها إلى أيّام طفولتها البعيدة لتعيد تجديد الحكاية وحبكها عقدة ً عقدة .تعايشها .تتوقف بقطار العمر المسافر عند كل محطّةٍ، عابرةً سكّة آلامها ببطء .يجرّح مسامعها صرير حديدها الصّدئ آملة خيرًا بخاتمة الطّريق ...
الوقت عصراً ،التاريخ محته السنون لبعده .أسما تلهو في بستان الزيتون المجاور للمنزل يتلاعب الرّيح بخصلات شعرها المنسدل على كتفيها الصغيرين . يقاطع شقاوة لعبتها توقّف سيّارة على مسافة غير بعيدة ،يترجّل منها عدد من الشّبان يساعدون أحدهم على السّير والتوجّه نحو البيت ،بيتهم !!
تتوقف هنيهة ،تقترب بفضول صبيانيٍّ يدفعها لتعرف القصّة وإذ بشقيقها الأكبر "كمال" مصاباً في رجله ،يبدو الوهن على تقاسيم وجهه ويتصبّب العرق من جبينه .
تسرع لتخبر أمّها التّي كانت قد شاهدته مستندًا على اكتاف رفاقه فهالها المنظر وسارعت لتمسك به متناسية ما حولها مصدومة لهول المفاجأة .
-"سلامة قلبك يا إبني ،ماذا حلّ بك ؟ماذا أصابك ؟
فقاطعها أحد زملائه قائلاً:
"يهنيك بسلامته يا حجة!"
-"قولوا لي شو اللّي صار، وين كان ؟"
أجابها كمال بصوت ضعيف محاولاً طمأنتها :
-"لا شيء ،بسيطة، جرح صغير ،كنت اسبح في العاصي وجرحت "
لم تصدّق ما قال ،شعرت بأنّها قصّة مخترعة فانحنت على رجله تمسكها بيديها الإثنتين تتلمّسها وتتحسّس الضّمادة وكأن ّ قلبها قفز من بين ضلوعها يستقرّفي عينيها، تفحصانه من رأسه إلى قدميه ،تتأكدان من سلامته من أيّ مكروه .
تشخص بنظرها إلى السّماء "يا الله!"في دعوة بكماء لحفظه من كلّ أذى وهو يطمئنها بمرحه المعتاد يشاركه فيه رفاقه .
أمام هذا المشهد ،تجمّدت "أسما" وتعلّمت للمرّة الأولى كيف تحبس اللّوعة بصبر وتدفنها في دعاء صامت واحتساب .
اقتربت وهي تستشعر في قلبها الصّغير لهفة أمّها ،لاذت بتلابيب ثوبها ،وكأنّها تحاول ان تكفكف دموعها التّي تحجّرت في مقلتيها أو تأخذ على كاهلها القلق الكبير الذي ارتسم في ذهنها .
أشياء كثيرةٌ تغيّرت في حياة "كمال "اليوميّة وأحاديثه .
غيابه المتكرر ،اندفاعه وحماسه اصراره على الجهاد ،حديثة الدّائم عن استشهاد الإمام الحسين (ع) وصبر زينب (ع) وشجاعتها في تحمّل المصيبة .دروس كان "كمال طيلة فترة مرضه يحرص على إلقائها على مسامع أمّه وأخوته ليؤهّلهم ليكونوا على قدر من الإيمان والتّجلّد ،وها هو اليوم يأتي مصابًا مدّعيا بأنّه جرح في العاصي بينما كان يسبح !!؟
لم تصدّق أمّ كمال ولا أولادها هذا الإدّعاء. وقلق هو في غريزة الأمومة لم يفارقها ،يلحّ عليها لمعرفة الحقيقة .لم يجدها إعادة السّؤال على كمال ولا استفسارها من رفاقه .
"-بارعون في كتم أسرارهم !!"ولم تجد سوى أن تسلّم للأمر مسلّمة أمره وأمرها لله طالبة في سريرتها أن يحفظه ويقيه من كلّ شرّ .
أربعة عشر يومًا قضاها كمال طريح الفراش ،يصارع الحمّى وتصارعه فلا تنقص من حماسه ولا تقوّض من همّته وهو يستمع لنشرات الأخبار وما يجري على الجّبهات من مقارعة المقاومين الباسلين للصّهاينة أو يخبر إخوته عن سيرة كربلاء والعظماء فيها وعن مواقفهم وهم يستمعون لأحاديثه بشغف يزرع في نفوسهم بذرة غضّة تنمو عزيمة وانتفاضة في الشّرايين لكلّ أنواع الإستعباد والإستضعاف .
كانت "أسما" تنصت بكلّ جوارحها وتقبل بشغفٍ للتّعرف على كل ّ موقف عزّ ووقفة جهاد للنّساء اللّواتي كان يتوجّه "كمال "بدروسه عنهنّ لأخواته .كانت تشرب من معين قداستهنّ رشفة رشفة مع كل ّ قصّة من سيرتهنّ وترسم في مخيّلتها الصّغيرة تصوّرات منيرة لهنّ وتنطبع في إدراكها المتنامي نيّة التّأسي والتّشبه بهن .
أمّا حديث الجهاد فقد كان حديثا يروق ل"كمال" الخوض فيه والإيجار عميقا في خضمّه .يحكي عن عظمته ،وعظمة المجاهدين وشرفهم وفضل المقاتلين في سبيل الله وكرامتهم وأجر من يسلك طريقهم ويساهم في جهادهم ويجهّز لهم ويعدّ عدّتهم وكانت" أسما" تنهل من حماسه ويجتاح دمها بركانه الثّائر فيسكن ما بين الضّلوع .
3
العاصي في عصيانه الأزليّ يتدحرج في مجراه صاخبا غاضباً تارّة وطورًا ساكنًافي هدوء رهيب
يتآلف مع اصداء الأناشيد الثّورية التي تصدع في اجواء المدينة الواحمة، فهي تزف ّ شهيدها "أحمد خزعل"وتحتفل للمناسبة بإشعال الهمم الثّورية والتلويح بمناديلها السّوداء قبالة السّماء .
المناسبة غير عاديّة .الناس في المدينة يتأهّبون لإستقبال ابنهم بحزن غير عادي أيضاً .حزن ممتزج بشيء ٍ من العزِّ والنّبل .
الحال في بيت "أبي كمال "لا يختلف كثيرًا عنه في غيره من بيوت المدينة إلأّ أنّ كمال الصّديق الأكثر قربًا من الشّهيد ترك فراش المرض ليقوم بترتيبات الوداع الأخير ويشارك في التّشييع رغم ضعفه ،مع مجموعة الأصحاب ومسحة من الحزن تغشى وجهه بشحوب باهت وشوقٍ متوقّد في عينيه يعكسان رغبته الدّفينة في اللّحاق بصديق عمره ورفيق دربه .
تحضيرات التّشييع تجعل المدينة الوادعة تتحرّك في صخب غير معهود .
تستعجل "أسماء"خطاها لتشاهد للمرّة الأولى مواكب المشيّعين تحمل نعش الشّهيد بإجلال على الأكتاف في سكون مهيب رغم اللّطميات الحسينية والشّعارات الثورية التّي تهتف بها مجموعة من المجاهدين .
تخترق المسيرة الشّارع الذّي تقف فيه فتجد نفسها سائرة معهم وكأنّها محمولة على أجنحة طائر من نارٍ يحلّق بها بعيداً في فضاء شاهق ويكبر قلبها في صدرها فتضغط عليه براحتيها ،تبتلع لعابها تنتفخ أوداجها وإذ بموجة من الحشد تكاد تسحقها فتعود إلى صوابها ،تستشعر في لا وعيها العميق عظمة الموقف ،فالرّاحل شهيد وقد أدركت من لهفة كمال وإشارات وجهه وسكنات عينيه عظمة الشّهادة إذ شعرت به يغبطه على نهايته وعاقبة أمره المشرّفة .
في هذه اللّحظة المهيبة بدأت أسما تتلقّن أبجديّة الجهاد حرفًا حرفًا ،بدءًا من المشاركة في تشييع شهيد وهي لا تدري إلى أي مدى قد يؤدّي بها المشوار فهذه هي الخطوة الأولى لها في درب شائكٍ طويلٍ ممتدٍّ إلى نهاية ٍ غابت عنها معالمها واختفت خلف منعطفات زمن رسم لها مسارًا غامضًا .
عند عودتها إلى المنزل أخذت تخبر إخوتها عمّا رأت وشاهدت وغبطت نفسها لمشاركتها في تشييع الشّهيد وتذكّرت جيّدًا تلك الأكفّ التّي امتدّت إلى نعشه لتتبارك منه أو لتدوّن على أكفانه عباراتٍ وأسماء علّه يذكر أصحابها في موقف يوم عظيمٍ فينالهم من بركاته ،وإن تنس لن تنس كيف شاهدت شقيقها "كمال "ينفض عن ثيابه غبار حفرة قبره ،إذ أصرّ أن يستلقي فيها رغبة منه في التّبرك .
4
عاد كمال إلى البيت بصحبة عددٍ من رفاقه ،عقدوا حلقة بدأوا يتحدثون فيها عن الشهيد "أحمد"،أخلاقه ،سيرته، أيّامه الأخيرة بينهم ،آخر أحاديثه ،وصيّته واستشهاده .
اهتمّ الصّغار في البيت لما يقال ،"أسما"أضافت لغذاء روحها علاوة على ما شاهدته بنفسها أحاديث "كمال "وأصحابه عن الشّهيد ،أخذت تنصت بكل جوارحها .
استأثرت هذه الحادثة حتّى بمجالس النّساء ،أم كمال وجاراتها ،أيضًا يتحدّثن عن أمّ الشّهيد وأخواته ووقع المصاب عليهنّ .تنتقل "أسما"بسمعها بين هذه الجلسة وتلك مصطادةً كلّ شاردةٍ وواردة وكلّ تفصيل صغير وكأنّ حديث الجهاد والشّهادة يخصّها ويعنيها دون غيرها ،ولأنّ "كمال" من المجاهدين الذّين بدأت بذرة العشق في قلبها لدربهم تنمو فقد أحبّت أن تمعن النّظر في وجوههم وتتعرّف إليهم واحدًا واحدًا .ربّما حملت الأيام خبر استشهاد أحدهم ،فلن تحرم نفسها من بركة معرفته وستشرّف عيناها بكرامة النظر إليهم .
أخذت تسترق السّمع والنّظر إليهم ،ناداها "كمال"أخذ بيدها وعرّفها بأصدقائه "كمال خزعل "قريب الشهيد أحد الحاضرين والصّديق المقرّب من "كمال"شقيقها .
انطبعت صورته في ذهنها.شعرت في نور عينيه شيئًا غير عادي ،شيء يشدّها .لم تعلم إلى أين يشدّها هذا النور .إلى أيّ مصير ؟!
تكرّرت زيارات "كمال"لـ"كمال":يتجاذبان اطراف حديث يبدو مهمّا .يخرجان سويّة ،يتواعدان ،يغيبان ويعودان معًا وربما طال غيابهما أيّامًا وأسابيعًا.
غياب "كمال"يترك فراغاً في البيت نظرًا لوجوده المميّز ،لمرحه وحضوره ،وعلاقاته مع كلّ فرد من إخوته .؟هذا الغياب يخلّف هدوءاً يسود المنزل يناقض الصّخب والحيوية التّي يخلقها وجوده وتردّد أصحابه عليه .
هذا الغياب المتكرّر يؤرق أم كمال ويقلقها ،"أسما" تفتقده ،كلّ من في البيت يحتاجه .
بدا لأمّ كمال أن تلحّ عليه ليتزوّج.ربما تشغله مسؤوليّات الأسرة عن الجهاد فتقعده ،إلأّ أنّه كان يعدها خيرًا ويبتسم ...
5
لم يكن المستقبل يومها يعني الشّيء الكثير ،كان مجرّد التّفكير في الأيّام الآتية كمن يقحم نظره في نفق
مظلمٍ ،فالحرب والأحداث والأقدار والأحاديث وكلّ ما في لبنان يمنع المرء من أن يتأمّل خيرًا وكان الأجدى بأن يعيش لحظته ويومه .
لو عادت "أسما"إلى الوراء لنقل لها الماضي حيًّا كما لو أنّ أحداثه تجري الآن .كما لو أنّ "كمال"يفترش الأرض تحت التّينة الباسقة التّي تظلّل مدخل البيت يستعجلها لتأتي بفنجان من القهوة لصديقه "كمال".
تسرع بخطاها ،تتعثّر،تمدّ يدها لتتناول الفنجان عن الأرض ،تضعه بإزائه على عجل ،تنسحب متعثّرة بأذيالها لخجلها ،تسمعهما يتحدّثان :
"-الله أكبرعلى اليهود!الله يرزقنا الشهادة ونقوم بواجبنا "
"-إن شاء الله يكتب لنا القتل في سبيله "...
وطال الحديث ،لم تسمع بقيته ،علق في ذهها أنّ "كمال"أخيها وصديقه يتحدّثان عن الشّهادة وكأنّهما ينويان أن يرحلا ويلحقا بصديقهما .أوجفت خيفة ،ألقت بنظرة عليهما فهالها اصفرار يخشى وجه أخيها وكأنّه شحوب
الفناء .أحسّت وكأنّ غبار الموت متعلّق بأهدابه ،يمتصّ وهج الحياة من مقلتيه .شعرت به يتحرّك ببطء وسكون وكأنّ حركاته وسكناته ستنبّئؤها بسوءٍ سيصيبه .أشاحت بنظرها عنه محاولة طرد أفكارها السّوداء الزّاحفة على حدسها الفطريّ إلّا أنّ الفكرة تملّكتها واستوطنت مخيّلتها ،مسلّمة إيّاها لأمواج من الحزن الغامض العميق .
التفت إليها "كمال"سائلاً:
"-ما بك يا أسما؟"
"-لا شيء"وسبحت بأفكارها في أعماق أعماق الغموض .
تاهت بها في خضمّ خواطر رهيبة وحدس لجوج أصرّ أن يقبع في زوايا لبّها مؤرّقا طفولتها "كمال راحل!؟"
افترس سكونها هلعٌ بأنياب الشّك الرّهيبة فتلاشت نظراتها خلف "كمال"تشيّعه بعينيها الدّامعتين ترافقه في جولته على الجيران صامتةً حزينةً.
لم يشعر أحد من أفراد الأسرة بحزنها ،ولم يكلّف أحد نفسه عناء السّؤال ،بل ربّما لم ينتبهوا للمشاعر المتضاربة التّي تتقاذفها في بحر خيال هائلٍ تحمل طيّات أمواجه حدسًا مبهمًا .
جال "كمال"يومها على الجيران ،لم ينس أحدًا منهم وكأنّه يودّعهم ،ربّما يحضّر لسفر طويل أو رحلةٍ أو غيابٍ .
وحدها "أسما"شعرت بذلك وأدركت أنّ في تصرّفاته سرًّا غريبًا،إلهام سيّره ليغيّر كثيرًا من أموره .
في تلك اللّحظة ،كانت جذوة طفولتها المتوهّجة تخبو ،تذبل لينبت شوك الألم في تربة أيّامها الغضّة .
6
اللّيل طويل حالك وكأنّ ثوانيه تدقّ بمطرقة من حديد. قوافل سُحبٍ تجري حثيثة مسرعة حاجبةً وجه
القمر.تنقشع عنه فيبدو متربّعًا وسط السّماء، متلفعًا وشاحاً من الشّحوب يزيد من دمس هذه اللّيل
وحلوكه.
ليل رهيب !! يمعن في رهبته نعيب بومٍ حطّ قريباً من بيت "أبو كمال"يخترق الهدوء الذّي يلفّ المدينة
بأكملها .أنوار خافتة تتغامز من خلال بعض النّوافذ تلهث عاجزة لتبثّ روح الحياة في هذه السّاعة المتأخّرة من ليل نيسان. فقد زحف الظّلام بأذياله الثّقيلة فاجتاح قلب المدينة وأطرافها .تسلّل إلى كلّ زاوية وناح فخطف النّور منها وسلّم أهلها إلى سلطان النّوم بعد نهار شاقٍّ ومضنٍ دوّت فيه أنباء عن اشتباكات بين أبناء المقاومة المجاهدين والجنود الصّهيانة في عمق الجنوب اللّبنانيّ،
ربّما كان اللّيل ساكنًا في الهرمل ولكن مشتعلاً في علمان الشّومرية مدويًا صاخبًا ،متفجّرًا ومضيئًا بمئات القنابل .
ربّما اخترق جدار صمتها الرّهيب صراخ أو تأوّه أو تكبير .ربّما شهد ليلها اقتحامًا أو تراجعًا ،كرًّا أو فرًّا مقابل الهدوء في الهرمل .
قد تكون العيون قد نامت والجفون قد اطبقت على دمعتيّ أمٍّ أوأختٍ أوزوجةٍ إلاّ أنّ القلوب ساهرة في دعاءٍ مستمرٍّ وابتهالٍ ،والأرواح سارحةً في عالم التّرقّب والحذر ...
"بسم الله الرحمن الرحيم "! تنتفض أمّ كمال من فراشها مذعورة ،فيستفيق أهل الدّار لصوتها وأنّاتها ودموعها .
"-خير إن شاء الله ".
"-الله يستر""الله يحميك يا كمال""أين كمال ألم يأت بعد ؟!"
ويأتي الجواب صاعقاً :"لا ،لم يأت بعد"
"-رأيت...عرسًا في السّماء.الطّبول تقرع ،ورفوف الملائكة تشارك بحضور العرس .إن شاء الله خيرًا."
استفاقت "أسما"على صوت والدتها تنوح وتذرف دموعها خوفًا على بكرها "كمال"وسمعتها تسرد المنام لأخواتها .
أرادت ان تكذّب ما تسمع .تمنّت لو كان ذلك كابوسًا عارضًأ،فقد تقاطع منام الوالدة مع هواجسها وإن صدقت الرّؤيا صدق الحدس
لا....لن تستسلم مرّة أخرى لفكرة الفراق ،لن ...وشوّشت أفكارها صدمة صمّاء لا تعي ولا تعبّر ،شلّت تركيزها فعجزت حتّى عن الدّعاء ...
يومها تأخّر الصّباح عن موعده دهرًا .
ربّما أضاعت شمس النّهار طريقها فاندثر الشّروق إلى حين لملم الفجر لوازمه لينبلج .
أخيرًا طلع الصّباح ثقيلاً ،قابضًا ،رابضًا على أفئدة اهل الدّار بعبءٍ لم يدر أحد كنهه ."أسما"كانت تنتظر شيئًا أو خبرًا دون درايةٍ بالسّبب .كلّ ما تعرفه أنه كان عليها أن تنتظر .
-ترى أيّ عرسٍ سماويٍّ هذا؟ تحضره الملائكة وتقرع طبوله في السّماء ؟
7
انتصف النّهار .
توقّف عدد من السّيارات على مسافةٍ من مدخل البيت .
"أسما" كعادتها تحاكي زهر نيسان أو تلاحق فراشة حطّت على وريقات زهرةٍ لم تتفتّح بعد في بستان الزّيتون المحاذي للمنزل .أختها الكبرى "نجوى"تحمل كتاباً تقرأ منه متنقّلة بإعياء ظاهر .ربّما كبّلتها الهواجس هي
أيضًا .تتمنّى لو تدرك طيّات هذا الشّعور الذي يجتاح كيانها بغموض .
تنتصب لتشاهد فصلاً من حكاية لن تنساها ولن يمحى من ذاكرتها.
إنّه مشهدٌ بدت فيه قصّتها مع دهرٍ ما أنصفها دفعت له عمرًا ووفاءً وإيمانًا بالمقدّسات .
يترجّل من السّيّارات مجموعة من الرّجال تعرفهم جيّدًا، فتخرج أم كمال على صوت الأبواب والصّخب وبمجرّد رؤيتهم بدأت تروح جيئة وذهابًا ،يمينًا وشمالاً وتنظر إليهم بعينين زائغتين تحدّقان بالفراغ قائلة :"ماذا فعلتم بي ؟"
بدت في هذه اللّحظة كلبوةٍ جريحةٍ مكبّلة ،يقطر صوتها ألمًا .حتّى هذه اللّحظة لم يكن من سببٍ وجيهٍ يدعوها لتتصرّف بهذا الشّكل إلاّ أنّ غريزة الأمومة أنبأتها بالفاجعة :"استشهد كمال في عمليّات يوم الأمس ".
تقاطر الجيران والأقارب بلمح البصر وتعاظم الحشد فامتلأ البيت بالنّاس والعجيج والضّجيج .
"نجوى"يقع الكتاب من يديها المتشنّجتين ،تركض باتجاه المنزل مصعوقة، قدماها لا تطاوعانها ،وكأنّ المسافة
تطول .تسرع دون ان تصل .يتلاعب الرّيح بصفحات الكتاب المرمي على الأرض كأنّه يناديها معاتبًا أو مواسيًا .
حتّى اللحظة والدّقيقة استطالت .كأنّ الزّمن توقّف إلى حين وصلت نجوى وسألت :
"-شوفي؟!!"
لم يجبها أحد ،كان الكلّ في شغل شاغل .بدأت تدور بينهم ويدور فكرها في دوّامة. كلّ ما تراه من حولها
وجوه واجمة.
-قولوالي؟!!
لم تفهم للوهلة الأولى ما حدث .لم تع أيضًا وقع الفاجعة .
إحدى الجارات كانت تنوح بنبرة حزينة نقلت إليها الخبر كصاعقةٍ .
"-راح كمال!"طاش لبّها .لم تصدّق ...بل لم تحاول أن تصدّق.
للفجيعة طعم مرّ ومذهل في آنٍ ،يذهب بالعقل في اللّحظات الأولى لتعود بعد ذلك الذّكريات فتعمل بالقلب تقطيعًا ونهشًا .تتضارب المشاعر ،تتقاذف المفجوع. تتلاعب به .تهزمه وترميه فهذا منهكًا فريسة للماضي ،للأحداث للّذكريات فتتولاّه بوحشيّة .تسحقه ،تنبش كلّ إنسانيّته ،تدميها فتفيض دموعه وجعًا ،وإن أفلح بالصّراخ والمناداة قد ينفّس كربته بلحنٍ حزينٍ أو نغمٍ كئيب فينفث حزنه إيقاعاً رتيباً ..."كلّ الذّي دون الفراق قليل ".
صدق قائل هذا البيت ،فالفراق هو اللّحظة الأصعب في عمر أيّ منّا والإحساس بالفقد هو الأكثر مرارة عمّا عداه والأمرُّ منه استحضار الفقيد في لحظات حياته وأيّامه سيّما إن كان منبع فخرٍ وتمثّلٍ واقتداءٍ .
هنا كان الإمتحان الصّعب .تجاوز الفراغ الذّي سيخلقه رحيل "كمال "الباكر إذ غادر قبل أن ينمو زرعه وتتفتّح أكمام أزهاره،قبل أن تتخمّر أفكاره في أذهان من حوله .لقد أقلع في رحلة أخيرة لن يعود بعدها تاركا "أسما"وأمّه والكلّ على ضفّة الإنتظار الطّويل في عراك مع الحزن أو تجاوزه ...
هنا كانت البداية .
"أسما "أدركت باكرًا عظمة الموقف الذّي وضعهم القدر فيه وقد تلقّت دروس التّأسي والصّبر والإحتساب من "كمال"نفسه في روايات عاشوراء بين كثبان "رمال الطّف ".
أقيمت مجالس العزاء واكتسى بيت ابي كمال حلّة الحداد ،تشوبها رايات حسينية .
انتهى المشوار الذي بدأه "كمال"كما أراد له أن ينتهي .دقّت نواقيس رحيله موسيقى الوداع معلنة خاتمة
مطافه بنبلٍ ، بسموٍّ ورفعةٍ .
بفخرٍ واعتزازٍ زفّ "كمال"بعرس سماويّ حضرته رفوف الملائكة...إذًأ،صدقت الرّؤيا!...وصدقت مشاعر "أسما".
تنقّلت بين صفوف المعزّين تتبيّن وجوههم ،تتصفّحها ،تقرأ في أعينهم ألف خطابٍ وخطاب ...يتداخل السّواد في ناظريها ،تتفاوت مسحاته الحزينة ،تختلط بتماوج وحشيٍّ ينهش قلبها بحزنٍ ويجتاحه بكآبة مقيمة مؤطرة صورة "كمال"فيه إلى الأبد .
ما يعزّيها رحيله كشهيد إذ رحل مصحوبًا بهالة من نورٍ مقتحمًا أسوار الحداد ،مكتسحًا مساحة السّواد، مشرّعًا نوافذ القلب بلمسات مضيئةٍ هي العزّ والفخر المجبول بحسرة الفراق وصمت الموت العظيم مشوبًا بآه عميقةٍ قد تسع المدى .
8
تبدّلت المشاهد في بيت أبي كمال ،ران الصّمت على المنزل الوادع خلا وقع أقدام مجموعة من النّساء متلفّعات بالسّواد يقتحمن سكون المكان فتجيش ذاكرة أمّ كمال المشحونة تبثّ لوعتها في مقطوعة هي مزيج من النّحيب والشّكوى ،اختلط فيها وجيب القلب وأنين الرّوح .
تحين منها التفاتة إلى بناتها الصّغيرات فتراهنّ مكتئباتٍ دامعاتٍ شاحباتٍ ،يصعب عليها الشّعور بالتّقصير تجاههن تناديها أمومتها الرّؤوم فتترك المجلس تناديهنّ واحدة واحدة ،تضمّهنّ ،توصيهنّ بالصّبر والإهتمام بعضهنّ ببعض. تربّت على كتف إحداهنّ .تمسح دمعة أخرى .تسوّي شعر الثّالثة .تغمض عينيها الذّابلتين ،على ألف وصيّة ووصيّة .يعزّ عليها الإلتفات عنهنّ تعانقهنّ في ضمّة تجمع بين الذّراعين حكاية أجيال من القاصرات الكسيرات ،مهيضات الجناح صنعن من الضّعف قوّة ومن الحزن انتصارًا .نبت العزّ من ريّ دمعهنّ ونما رجالاً وبطولات فعرّش على جدران التّاريخ مجدًا ودماءً وإباءً ...
ترخي يديها المتعبتين .تتجه بخطى وئيدة نحو المجلس إلى وفود المعزّيات ،تستقبلهنّ بابتسامة حوت بين ثناياها الكثير من الإسرار ...
تحدّث الجميع عن العملية البطوليّة ،دوّت الأحاديث عنها أنحاء المدينة وربّما
البلاد .غبط الجميع أم كمال على بطولة ولدها الشّهيد .انتظروا مزيدًا من تفاصيلها الغامضة ،ولكنّ السّرّ طوي مع ركب الشّهداء الذين ارتحلوا معًا لم يعلم أحد شيئًا .انتظروا على جمر الغضا .تساءلوا عن كيفية استشهاد "كمال"، عن مكان إصابته وكثيرًا من التّساؤلات تزاحمت في الأذهان مطلقة آفاقًا تروي فضول المتسائلين .
طال الإنتظار .دام العزاء أيامًا وليالي بانتظار وصول جثمان الشّهيد ما فتح آفاقًا اوسع للتّساؤلات والحيرة والأوهام ...
قيل بأن جثث الشّهداء ومن بينهم "كمال"قد أسرت لأنّ العمليّة البطوليّة حدثت ضمن المنطقة المحتلّة .آراء أخرى نفت ذلك واختلقت أسباباً أخرى .علّق الجميع آمالهم على خبر جديد ."كمال خزعل "صديق الشّهيد وابن المدينة جرح في العمليّة ويتلقّى العلاج في المستشفى .هرع الجميع إليه لمعرفة الخبر اليقين .
"كمال فاقد وعيه !"ففقد الجميع الأمل وعادوا للإنتظار الطّويل .
سمعت "أسما"باسم "كمال"."كمال خزعل "تعرفه جيّدًا وتذكره ،ترسم ملامحه في ذاكرتها فتتوضّح لها صورته .تتمنّى له الشّفاء .تشعر في قرارة نفسها حاجة ملحّة لشفائه .ترى فيه صورة أخرى ل"كمال ".الشّق الحيّ منه .ما تبقّى من ذكراه بعد أن قيل بأنّه فارق هذه الحياة ...
أم كمال تهتمّ أيضًا لحاله ،تسأل عنه الوافدين ،تتابع تطوّر حالته .قد يحمل لها خبرًا ،أو هو من ريح ولدها .ألم يشهد لحظاته الأخيرة؟
ألم يصاحبه ساعة أزف الرّحيل فاستقلّ قطار العمر الغابر تاركًا إيّاه في محطّة
الإنتظار ؟
ألم يكن فردًا في هذا السّرب المهاجر شاءت مشيئة الباري أن يتخلّف عنه ؟
حبست كثيرًا من اللّوعة بانتظاره وانتظار ما سيحمله لها عن بكرها الشّهيد .ربّما حدّثها بما يروي ظمأ ثكلها وما يشفي غليلها ويدلّ على أرض حضنته عوضًا عنها. ربّما قد تكون أثوابه ترفل بغبار تراب جمعهما معًا يومًا ،بل هو آخر يوم من عمره النّدي .
كيف نفض قطرات النّدى عن وريقات عمره وانتفض ممتشقًا قضيّة جفّ لها شبابه الغضَّ فأرهقه قربانًا لأقدس المقدّسات على مذبح الأرض السّليبة.
هذا التّراب الذي داسته قدماه يحمل اثره .هي تمجّد هذا الأثر. تعشقه بكلّ جوارحها، عشق الأم لفقيدها الغالي فهو ما تبقّى ...
"استعاد كمال خزعل وعيه!"
خبر مقتضب نقله أحد الجيران لأمّ كمال التي سارعت لتعديل لثامها متذكّرة وصيّة ابنها :
"حجابك أفضل من دمي "
تشعر بكلماته توخزها تدعوها وتوقظها لصحوة كان يريدها لها ولكلّ من أحبّ . ترنّ وصاياه في أرجاء فؤادها الكسير فتحييه. تتلهّف لعيادة صديقه لعلّه حفظ لها عنه وصيّة أخيرة أو كلمة .عساه حمل لها أملاً بدأ ينقر على وتر حزنها أنشودة لقاء بات مستحيلاً .
تتعثّر بخطواتها عند باب المشفى .تسند قلبها بيسراها وتمسك بطرف إزارها باليمنى .تزدرد غصّة مرّة في
حلقها .تحبس دموعها بلوعة فيها كلّ حنان العالم. تنثره ابتهالاً إلى الله ليحفظ كلّ ولد لوالدة ويقي شباب الأمّة من كلّ مكروه وتدعو في سرّها ماينبت لها أملاً كشوكةٍ تنخر يقينها بفقد عزيزها .
لم تشعر بالمسافة التّي قطعتها من باب المشفى إلى باب غرفة "كمال "،عبرتها كطائر جريح فاردًا جناحيه محمولاً على أجنحة الرّيح يلوذ بما يشفي جروحه .
بقلب كبير تدخّل .بابتسامة حزينة تتقدّم لتزرع على كتفه قبلة رؤوم كانت تتمناها لولدها .
يكبر فيها العنفوان ...والأمل الوهم .
"-الحمد لله على سلامتك يا ولدي ،الله يخلّيك لأمّك "
"-الله يسلّمك يا حجّة ".
وبعد السّؤال والإستفسار عن حاله والأخبار تجد نفسها تسأله بعاطفة جيّاشة :
"أخبار من فارقت ؟"وتخنقها العبرة فترسلها مدرارة حارّة تذرف معها كلّ لوعتها دررًا طالما حفرت في وجهها أخاديد الحزن والحسرة .
حاول "كمال"أن يعدّل من استلقاءته متحاملاً على آلامه مستجمعًا كلّ جرأة يدحض بها خجله إزاء هذه الجالسة أمامه ،يسحق عجزه أمام تضحيتها الكبيرة إدراكًا منه بخسارتها العظيمة .
لم يعرف "كمال "ما كان عليه أن يخبرها وما عليه أن يخفيه ولا من أين يبدأ .
تلعثم .استجمع كلّ التّفاصيل التّي يذكرها .قد لا تنفعها .
بدا الإعياء على تقاسيم وجهه وعند كلّ كلمة تنبسّ لها شفتاه. كان يتبيّن اللّهفة في عينيها اللّتين كانتا تتوقّدان أملاً .
شعر بأنّه أساء إليها إذ لاحظ قبس رجاءٍ أضاء نور عينيها الباهتتين .ماذا لو تأرجحت أمانيها ما بين يأس
ورجاء ؟ماذا لو تهيّأ لها بأنّ" كمال" ولدها لا زال حيًّا وعاشت مرارة الإنتظار العقيم ؟
إلاّ أنّه لم يجد بدًّا من قول الحقيقة .أخبرها بها. قال لها بأنهما افترقا عند خط المواجهة الخلفي . لم يره بعد ذلك ، لم يشاهده .لم يلحظ ساعته الأخيرة .لم يشهد رحيله ولا عاين جثّته .
هي اكتفت بهذا القدر من الكلام .علّقت عليه أمانيها .لم ترد أن تسمع المزيد .تلاشت الأشياء في ناظريها وتضاءلت الألوان لم تعد ترى غير شفتي محدّثها وكأنّ الكلام الذّي يصدر عنهما هو طيف أملها متجسّدًا وقد حمل لها ما سمعته بشرى الوهم الذّي رسم حدوده قلبها المفجوع .
انهت أمّ كمال زيارتها وخرجت على غير ما دخلت به .أتت متعثّرة بالحسرة وعادت متسربلة بجلباب الأماني الخادعة. نسجت خيوطه الواهية لهفة ثكلها .
عند وصولها إلى البيت ،لاحظ الجميع إشارات تنمّ عن الرّضا في محيّاها إذ دخلت مشرقة الوجه متعلّلةً بألف أملٍ ورجاء .
لم تفاتح أحدًا بما يجول في خاطرها .احتفظت بسرّها لنفسها ولم تشعر بأنّ ما تخفيه سيختمر عذابًا يؤرّق لياليها ويسير بأيّامها على عجل ...
أسرعت إلى صورة "كمال"التّي تتوسّط صدر الدّار ،أرادت أن تنزع عنها الوشاح الأسود التّي لفّته به منذ
أيّام .همّت بذلك إذ قال لها "كمال خزعل"بأنّه لم يره .حتّى جثّته لم ترها هي أيضًا. ربّما لم يمت .قد لا يزال
حيًّا .ما ادرانا !؟قد يكون جريحاً أو مختبأً في مكان ما .قد يعود يومًا ،ولكن متى هذا اليوم؟
قد يعود ليرفد المنزل بالدّفء والحياة بعدما دبّ فيه الصّقيع وتجمّدت الأحلام .
أجالت النّظر في عينيه ،في جبينه،في شعره كأنّها تتعرّف إليه للمرّة الأولى .شعرت برغبةٍ في الصّراخ .
تمنّت لو نأت في مكان لا يسمعها فيه أحد لتبثّ لوعتها في آهٍ تستغرق المدى وتخرق الأزمنة والأماكن .
بل لو يسمعها كلّ من على الأرض لأنّ جرحها أعمق من أن يسع الأرض ...
خدّرتها الحسرة ،نظرت إلى رسمه معلّقًا على الحائط لتذكره دائمًا .
عاتبته .أمعنت النّظر إلى نظرته المعاتبة المشفقة وكأنّها فهمت خطابه الأخير في الصّمت الذي طواه عابرًا جسر الخلود يهاجر ...
شامخًا ،تاركًا أمواج دنيانا يغادر .
تسكن بين ضلوعه آلاف الوصايا تذكّر بالنّصر الموعود وبثورة الدّم التّي لا تنتهي ...
تتشابه صور الشّهداء ....
تتذكّر بأنّها رأت عددًا منها معلّقة نياشين شرف على جدران الهزائم .
نظرات مآقيهم تتماثل ،مشفقةً على انحدارنا المستمرّ في دهاليز الظّلمة والضّياع ...
يتشابهون إلأّ في توقيت رحيلهم .يغادرون بلا مقدّمات .
يرحلون بلا مراسم .
يذهبون في كل المواسم .
يغيبون ليعودوا بشكلٍ آخر :مشاعل وقناديل وجعٍ في دمس اللّيالي الحالكة .
إنه قدرنا وإرثنا الحسينيّ: ذاك العزّ المجبول بحسرةٍ وبآه .
لم تسترسل كثيرًا .عاد إليها الأمل .لن تصدّق بأنه حزم حقائب العمر ورحل مع ريح الجنوب ما لم تشاهد
جسده .ألا يكون لكلّ ميّتٍ شاهد قبر أو نصب ؟!هو لم يوضع له أي نصب .لم يدفن أمام عينيها .لم يحضنه تراب الهرمل ولا ضمّه ثراها .لم تلثمه أنسام الدّفلى والطّيون ولا غطّته أكاليل الزّهور .
كل ّ هذا لم تره.لم تصدّق ؟! ولكنّ الرّؤيا والعرس الذّي شهدته ألم يكن نذيرًا ؟وكلّ هؤلاء النّاس أتراهم يخطئون وإحساسها وحدها يصدق ؟ تمنّت بأن يكون الجميع على خطأ.أملت بأن يكون كلّ ما هي فيه حلمٌ .وأيّ حلمٍ؟كابوس يبطق على كيانها بأظافر من حديد صدئ فيدميها ويحفر أخاديد الأسى في قلبها الذّي انطفأ سراجه ولم يبق فيه إلاّ بصيص يحشرج بين يأس وأمل .
عجّ بها الحنين على راحلاتٍ سقنها إلى آخر أيّام قضاها طريح الفراش .تمنّت أن تشمّ ذاك الفراش ربّما لا زال يحمل عطره ويأوي طيفه .ليته بقي على الحال الذي تركه فيه للمرّة الأخيرة ليبقى يوقظ ذاكرتها لئلاّ تنام عن ذكره ويظلّ ناقوسًا تصحوعلى دقّاته في كلّ لحظةٍ تغيب فيها صورته عنها .
استسلمت لنوبة من النّحيب غابت بها عمّا حولها .وإذ بيد تربّت على كتفها. تلتفّ حول رقبتها معانقة . ترفع عينها لترى "أسماء" تنحني عليها تقبّل رأسها ،تمسح دمعها مواسية .
"-أمّي ،لا تبك فقد أوصاك بالصّبر والصّلاة وتمنّى عليك عدم البكاء واللّطم "
"- يا ولدي ! يا حبيبي ،يا عمري الذي ضاع ".ورفعت رأسها لتلقيه في حجر ابنتها في بكاء طويل تشاركتا فيه .
مسحت "أسما"دمعها مبتلعة غصّة حفّ لها حلقها وأخذت تواسي والدتها تذكّرها بما كان يحدّثهم به كمال ،تسرد لها المصائب التي صبّت على أيام السّيّدة زينب (ع) حتّى استحلن لياليا...وعندما هدأ روعها أخذتها من يدها لتجلسها على سريرها ،تناولها كوبًا من الماء تمسح بقليلٍ منه وجهها وتساعدها لتستلقي وتغفو ...
أخذت "أسما "ترقب أمّها برفق وأسى في إغفاءتها المتعبة وقد تكسّرت أهدابها لكثرة البكاء وتغضّنت
أجفانها .وكانت بين الفينة والفينة تصدر تنهيدة عميقة تصعّد من وتيرة أنفاسها الواهنة الرّتيبة .
أسندت "أسما"خدّها على كفّها وغفت هي الأخرى وإذ أمامها مساحات شاسعة تكسّرت فيها كلّ حدود واتّسعت مدى النّظر مروج خضراء تتمايل مع أنساب عذبةٍ وشذى روحٍ وريحان .
سكون لا يتخلّله سوى رجع صدى تسابيح وأبو الفضل العبّاس (ع) بقامته المديدة يزفّ شابًّا بصوت عذب
حنون حزين:
"جينا نزفّك جينا يا عريس لاقينا
جينا نزفّك جينا لقيناك مجافينا"
من هو هذا العريس ليزفّه أبو الفضل ؟لله درّه! من يكون عظيم القدر هذا ليتولّى مراسم عرسه العباس (ع)؟في جلسته المتواضعة وانحناءة رأسه تعرف فيه "كمال"في ابتسامته الباردة والإستحياء البارز في نظرات عينيه .
شعرت برغبة جامحة في مناداته والتّحدّث إليه. حاولت التّقدّم إلاّ أنّها لم تكن تستطيع الحراك .
أدركت بأنّها الفرصة اليتيمة والأخيرة لرؤية أخيها أمامها .أرادت أن تمدّ يدها لتشير إليه ،ليلمحها إلاّ أنّ يدها سقطت من على حافة السّرير .
فتحت عينيها ،أجالت ببصرها فوجدت نفسها في الغرفة متّكأة على السّرير بجانب أمّها .
وأين "كمال"؟سألت نفسها بمرارة .أين المروج الخضر ؟أين العبّاس (ع) ؟أين كنت ؟
إن ما رأيته لم يكن حلمًا .رؤيا أو بين الحلم واليقظة ،و"كمال"إنه هناك عريسًا في الجنّة مع الشّهداء ...
تأججّت مرارة الفراق في صدرها ،وقفت والتفتت ناحية صورة "كمال" التّي كانت منذ برهة تستوقف أمّها عند كلّ ذكرى .
اتّجهت ناحيتها وقفت إزاءها وكأنّها تخاطبه :
"كمال ،غادرت في زمن الرّجعة موقظًا أحلامنا الواهية .تلقّننا كيف ترسم الأحلام حدود الوطن ،كيف تحمي الدّماء ثغور الزّمن ،كيف تلثم الجراح ثنايا العزّ وكيف ينبت الخلود من العدم .
غادرت لتحيا ذكرى عزّ ومسحة فخر .
عدت لتحيي تاريخنا وتشعل قناديل النسيان بعدما جفّ فيها زيت الإنتصارات وتوالت عليها حقب التّربّص والتّلقّي المشين .
عدت ماردًا يسحق ذيول الخيبة الزّاحفة على كياننا المتهاوي إلى دركات سحيقة ...
عدت لتردّ لنا نشوة العزّ في زمن المتاهات وتشرّع نوافذ الضّوء والنّور .
عدت لتنتصر بدمائك على السّيف والبندقية ،لتوقد العزم من قطرات دموعنا .
لتذكّرنا بوفاء الشّهداء لشعوبهم ،لترابهم وأمّتهم فترتعش الذاكرة التّي تآكلها الغبار لتقفز إلى أحداث كربلاء حيث تتجسّد القيم ،تلملم رفاتها لتحيا بنا دروسًا من تراب الطّف المجبول بالدّمع والدّماء ...
نقتات من مصاب آل محمد (ص) لجوع آفاتنا فنتعلّم كيف يكون الصّبر زادًا للمسير ...
نستحضر مواكب الخالدين نعوشًا إلى العلاء ...أنجمًا بهديها نستنير ...
.
10
كان كلّ يومٍ في بيت أبي كمال يحمل ألمًا جديدًا وشعورًا مرًّا بالفقد أعمق من
سابقه .
في تلك الأيّام العصيبة كانت "أسما" رفيقة أمّها ،تشاركها الحزن وتشاطرها مسيرة الأيّام الصّعبة ،تساندها لتكون أهلاً لدورها الجديد :أم الشهيد ! وترتشف معها دروس التّعالي على الجراح والسّلوك في درب السّائرين إلى السّموّ السّالكين إلى العلاء .
لوصيّة "كمال" كثير الأثر في الإنقلاب الكبير في كلّ ما في حياتهما. ببركة دمائه أينعت ثمار التّفاني في الرّوح .لقد فرض استشهاد "كمال"على العائلة واقعًا
جديدًا .
لم تعد أخبار المقاومين تمرّ عبر الأثير دون ان تقف طويلاً في المنزل .كان الكلّ يشعر بأنّه معنيٌّ بالخبر تعاظم اهتمام الجميع بالجهاد والمقاومة وتعمّق حسّ الإلتزام لديهم .
أم كمال تبنّت كلّ رفاق ولدها فطيفهم يعوّضها فجيعة فقده وسلامتهم أمان لروحها المعذّبة .تدعو لهم تمدّهم ببركة الدّعاء والسّؤال .تعود لنفسها، تنتحي زاوية تتفرّد فيها لحدادها .تستدعيها انسانيّتها فتستجيب بحزنها الدّفين الصّامت لا تريد أن تشرك فيه أحدًا .
ستحزن كما يروق لها الحزن بعيدًا عن واجبها في المجتمع .
ترثي عزيزها ،تندبه تنتحب أو تحدو له ،ربّما كانت تستذكر لحظات عمره
القصير ...
تستحضر مآثره وكلّ جميل كان فيه .كلّ ما فيه كان جميلاٍ بعينيها ورقيقًا ،
كم كان قاسيًا !
كيف أعلن الرّحيل سريعًاو انتقل .
لم يلتفت إليها .
وحيدة هي في محطّة أيّامها الآخذة في الذّبول طويلة لحظات انتصارها ومرّة.
ترتقب اللقاء .
ومن الآن إلى حين اللّقاء سيسكن الحنين قلبها ولن يتركه .
سيلجّ فيه ويتنامى وسيتّسع الفراغ الذّي خلّفه غيابه الأبديّ .
ستتعاظم في فؤادها اللّوعة ويعتصره الألم .
هي الأم الحنون ،كيف لم يقيّض لها أن تضمّه أو تشمّه او تلقي علىجثمانه النّظر
الأخير .
ترى بأي ّ أرض هو ؟ بأيّ ثرى ؟
أفي أرض هو أم في سماء ؟
تغبط ترابًا ضمّه. ليتها ذاك التّراب ،ليت شفار قلبها مسكنه الأخير .
هو حتمًا مسكنه الأخير لأنه لن يغادره وسيظلّ يقبع فيه وينزّ حزنًا وغصصًا
والتياع .أرادت له أفضل ما يمكن أن تتمنّاه أمّ لولدها .
أرادت أن يلازمها فغادرها ...
هي تدرك نبل مقصده وسموّ مسعاه ولكن ما ذنب انسانيتها لتدمى بأقسى ما يرمي به قوس النصر ؟
تعزّي نفسها بالمجاهدين فهم مثله لبّوا دعوة الدّاعي إلى الله ...
زأر الجنوب جريحًا فلبّى العاصي بفوارس مهديّة .تداعى أقصى الوطن لأقصاه فقدّم على مذبح الكرامة قرابينه .وكان لها هذا الشّرف .وكان عليها أن تدفع من مهجتها قطعةً لتنال بها مرتبة رفيعة .
تراه نورًا في كلّ عيون الشّباب .
وبعثًا يفوق رؤى الحالمين .
يغلق كلّ دجى العالمين ،وسيفًا في عمق الضّباب توقّد ...
تسافر في رمال الطّفوف لتنهض في كبوة وخضوع ...
تنفض عنها وساوس تثقلها .قد أيقظ الجهاد من الغفوة هذي الجموع ...
تجمع حكايا "كمال"ووصاياه .تغزل من كرة الدّماء نشيدًا تآلف مع نوح جلّه من كربلاء .
كأنّه النّحيب أو سيل من الدّموع ...
سئمت حزنها ،ملّته ،قرّرت أن تهجره أو يهجرها .
ولكن من يستجيب ؟ قلبها الكسير أم دمعها المدرار ؟
لقد اعتادت صمتها الحزين .
ساكنًا ما بين الضّلوع لجوجًا دفين .
وذكراه في القلب حيًّا صاخبًا لا يستكين .
يأكل من عمرها ،يفتّته ،يغمسه في متاهات من اللّوعة القاتمة .
يأخذ بها إلى ملاذات العذاب يعزلها .يأخذ من عمرها يقضمه .يرميها هيكلاً بروح تنازع. تدور في حلقات دون قرار.
هو الحزن قد تاه بها فغفلت عن الدّنيا وما فيها ،إذ كلّ ما فيها "كمال" وقد رحل فما بقي لها فيها شيء .
هي بانتظار أن يهجرها هذا الحزن .ومن الآن إلى الرّحيل تكون قد رحلت هي .
قد يكون هو بانتظارها وهي تستعدّ .
أشرعة العمر تتأهّب للرّحيل ،تشقّ عرض الزّمن بتثاقل مملء رهيب .
لو قيّض لها أن توقف الزّمن لأوقفته عند آخر لحظة كان ينبض له فيها عرق .
أو كان لها أن تجسّد الذّكريات لحوّلتها إلى صور ومشاهد يمكنها أن تعيد تقليبها لحظة بلحظة كما لو كانت تقلّب صفحات كتاب لتعايشها من جديد وتحيا تفاصيلها .
لو كان لها ذلك لإستزادت من شمّه وضمّه وتمعّنت في كلّ لحظة في تقاسيم وجهه ونور عينيه .
ما كانت تعرف ما أبحر في تلك العينين وإلى أين تاهت فيهما الأفكار ؟
أكان المقصد علمان الشّومرية ؟أهناك كان المحجّ حيث ألقى مراسيه وغادر ؟
ليتها أدركته هناك لأعطته أنفاسها وبادلته لحظات العمر .ذاك العمر العابر الغابر بلا رجعة إلى اللامكان ...
بل عبر إلى الضّفة الأخرى حيث الخلود ،إلى برّ يجالس فيه أصحاب الحسين (ع) وفيه كان عزاؤها ...
بدأ الوهن يدبّ في أعضاء أم كمال ويتسلّل المرض إلى جسدها النّحيل .
تقاذفتها المشاعر بين أملٍ بحياة ولدها وتسليم بأمر استشهاده ،فجثّته لم تعد .لم يأفل نجمه في أفق الرّجاء .
كم حاولت جاهدةً كبح جماح هذه العاطفة الجيّاشة في مضمارتسابقت فيه خيول الإباء والعزّة والكرامة والأمومة !!وفي كلّ مرّة كان العزاء تأسيًّا واحتسابًا أسوة بمن يصنع من الموت حياة :هو الحسين (ع) أسطورة العز ّ.
أنّها أسطورة المجد التّي تحبك بسيول الدّمع ولواعج القلوب التي أصبحت معزوفة للمجد وترنيمة للثّائرين الآفلين إلى أبعد السّدم ،ممزّقين صحائف التّلمود
السّوداء منتضين سيوف العزّ برّاقة في سواد اللّيالي الحالكة .
معجزة النّقيض من النّقيض أن تخلق الحياة من ذرّات الرّفات المتناثرة وأن تصبح الهياكل المتثاقلة منارات ومقالع للعزّ تجبل من رؤاها أقوات الأبطال .
ومتى يكون للهياكل رؤى ؟!
عندما تشرق الحياة على حافة الموت وتعلن معركة الفناء والخلود .
عندما يكون الموت قهرًا للموت نفسه ودحضًا للّزوال فالشّهادة شعلة الحياة في الجّسد المتهاوي .هي قبس العزّ الممتدّ في سراديب الوجع إلى الخلود إلى إشراقة المجد التّي لا تنطفئ ...
إلى حرارة الدّم الحسيني الذي لا ينضب ...
تلك كانت زينب (ع) في سجلّ الخالدات بيرقًا ...
أم كمال التحقت بركبها ساكبة دماء القلب وخلجات الرّوح جسرًا للعبور إلى تلك الضّفاف النّائية حيث مجاهدات السّرّ ،حافظات الأمانة والعهود .
لم تتخلّف "أسما " عن النّداء النّبيل تلذّي يودي إلى النّور، إلى أهلّة نثرت منابع النّور مباحةً للنّاهلين .
11
توالت الأيّام متدافعة لا تحمل جديدًا ."أسما "رفيقة درب والدتها في صراعها مع ذكريات الزّمن الذّي عبر وحمل معه "كمال"دون أن يعود والأماني المرّة بعودة جثمانه ،تؤنسها ،تواسيها وتكفكف دمعها:
"-فقط أريد أن أحظى بقبر له أزوره ،أرشّ عليه حفنة تراب ،أقرأ له الفاتحة ليبرد قلبي "
"-توكّلي على الله يا أمّي ،الله كبير،لا بدّ سيرجع !"
وتخنقها العبرة :
"-يا لهذا الحلم الذي يدمي القلب ! متى كانت الأمّهات تتمنّين القبور لأولادهنّ بدل المنازل والقصور ؟ حتمًا في حال كحال أمّي !"
تنهض أم كمال بتثاقل ،تجلس قبالة صورة ولدها كعادتها كلّ صباح تحدّثه ،تترحّم عليه وتخبره بأحوالها ،تشكو له قساوة الزّمن عليها وتبثّه لواعج الفراق .
يطرق الباب ،تنادي "أسما"التّي كانت قد فتحت الباب مرحبة بالضّيف الزّائر "كمال خزعل "صديق الشّهيد "كمال"،رفيقه في رحلته الأخيرة ليقوم بالواجب مع الحاجة التّي هي بمثابة والدته كما يقول .
"-هي أمّ الكلّ ،حاضنة الجميع ،ببركات دعائها ولهفتها على سلامتنا نتحصّن.
"الله يخلّي شبابكم! أنتم مثل كمال ،كلّكم أولادي "
يتناول قهوة الصّباح مع الحاجّة كعادته في كلّ مرّة من المرّات النّادرة التّي يأتي فيها لزيارتها كلّما تسنّت له الفرصة أو سمحت ظروف العمل .
تلحّ عليه ليمرّ عليها كلّما تواجد في المدينة .
يعدها بذلك .يستأذن بالإنصراف بعد أن أسرّ لها بأنّ والدته ستزورها في شأنٍ
هام .
ترى ما يكون ؟
12
الذّكريات تموت وتحيا ككلّ الكائنات .عودة "كمال"جعلت" أسما" تعيش الذّكريات الماضية ،أيّام العزّ،أيّام شقيقها ورفاقه المجاهدين .
جعلتها تشعر بدفق الدّم الحسيني في عروقها من جديد ، تثمّن شهادة "كمال".تغبط نفسها على ما نشأت عليه .
تذكّرت أيّام عرّفهاأخوها عليه ،حين شدّها ذلك النّور الخفيّ في عينيه إلى ما لا تدري .
ها هو يعود الآن ويرجع معه جعبة ملأى بالحنين والتّوق لأيّام خلت .
يحيي جذوة الحسّ المقاوم في روحها، يعيد إليها طيف "كمال"ونهجهه ومبدأه الذّي قضى فيه .
تشعر بأنّه عاد يحمل الإسم نفسه والنّهج والعقيدة وكأنّه الجزء الحيّ الذّي بقي
منه .ألم يكن رفيق الرّحلة الأخيرة ؟
كانا معًا في اتجاه هدفٍ واحدٍ قضى الأول نحبه والآخر لا زال ينتظر .الأوّل صدق ما عاهد الله عليه والثّاني لم يبدّل الخطّ ولا المسير .
مضى ذلك النّهار واضعًا "أسما"أمام مفترق مصيريّ:إذ أتت الزّائرة الموعودة لتطلب يدها زوجة لولدها .
هل كان عليها أن تفكّر ؟أم أن تحسم أمرها ؟
لطالما تمنّت أن تشارك المجاهدين أجرهم .أن تناولهم السّلاح أو تزيل الغبار عن بزّاتهم المرقطة .
كم عشقت دربهم المحفوف

ليست هناك تعليقات:

شهداء المقاومة..منارات الهرمل


من صور الأصدقاء: جرود الهرمل

جارة العاصي ترحب بكم ضيوفاً.. على الخير دائماً

مسجد الوقف.. الحنين الى الأيام الأولى