2009/11/13

التعليم الرسمي في الهرمل وجرودها: «عسكري دبّر راسك»

لا مواد تكنولوجية ومعلوماتية ولا لغة إنكليزية.. وتخوف من إقفال 12 مدرسة

الهرمل - راكان الفقيه/ السفير

لا يحتاج «علي» للكثير من العناء كي يوضب حقيبته المدرسية.تحتوي «شنطته» كتاباً للقراءة العربية وثلاثة دفاتر ومبراة وقلم رصاص بات في آخر أيامه، وبالكاد يستطيع التقاطه بأصابعه الصغيرة. يأخذ علي وقته في النوم داخل إحدى الغرفتين اللتين يتكون منهما منزل والديه، فهو يستطيع الوصول إلى «مدرسة العسري الرسمية» خلال دقائق معدودة.لا تبعد المدرسة عن البيت أكثر من مئتي متر، خصوصاً أنه ليس بحاجة لأكثر من ارتداء «مريوله» الكحلي الذي يميل إلى الأزرق الفاتح، بفعل غسله المتكرر، وانتعال حذائه الرياضي الذي اعتاد عليه منذ ما يقارب السنة والنصف.

أما ما تبقى من واجبات علي المدرسية والشخصية فقد تحولت إلى «لزوم ما لا يلزم» وتفاصيل غير مهمة في حياته، ينجز منها ما تيسر خصوصاً وقد تدبر أمره بمجموعة ألعاب صنعها بنفسه، بواسطة عدد من الأسلاك المعدنية وصناديق الكرتون، حيث أصبح في شبه اكتفاء ذاتي، من دون أن يأمل بأي بديل عنها. تعيش عائلة علي في «العوز»، بعدما جرّب والده العديد من الحرف والأعمال ولكنه انتهى إلى «التقاعد» من دون أجر بانتظار الفرج وزوال حظه العاثر.

يقول علي أنه لا يخشى أنفلونزا الخنازير، ولم يأخذ أي إجراءات تحول دون التقاطه العدوى لأنه لم يسمع بها حتى الآن. لا يختلف حال أطفال «أبي علي» الخمسة الآخرين الذين فرحوا كثيراً كباقي أطفال الحي وجميع سكانه، القاطنين في أقصى الطرف الجنوبي لمدينة الهرمل، عندما علموا بقرار إنشاء المدرسة في حيهم الفقير والمهل وهم الوافدون إليه بعد أن تقطعت بهم السبل في الأودية المحيطة بمدينة الهرمل. كانت مناطقهم تفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة، حيث اجتمع قحط الطبيعة والحرمان المزمن والمتعمد من قبل الحكومات المتعاقبة، لتحول منازلهم الطينية إلى أطلال مهجورة.

يتذكر العضو في لجنة الأهل في المدرسة حسين علاء الدين المعاناة التي رافقت مطالبة سكان الحي وزارة التربية بافتتاح المدرسة عام 1994، حيث ما تزال أرضيتها إسمنتية (من دون بلاط) ولم تعرف جدرانها أي نوع من الطلاء، وسقف ملعبها الشتوي هو عبارة عن ألواحٍ عدة من الاترنيت.

تابع علاء الدين استحضار الجهود المضنية التي بذلها الأهالي واستمرت لسنوات عدة، من دون أن تحرك وزارة التربية ساكن، إلى أن انتهى الأمر وبعد إصرار ومتابعة دؤوبة إلى تلقيهم وعداً بالموافقة على افتتاح المدرسة، شرط أن يوفر الأهالي البناء اللازم. وعليه تبرع أحد أبناء الحي بإخلاء منزله وتحويله إلى مدرسة لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من المعاناة من أجل تأمين مدير للمدرسة وكادر تعليمي، وهي مهمة كانت مطلوبة من الأهالي بدل أن تكون مسؤولية وزارة التربية.وكان تحقيق كل خطوة للتقدم بالمدرسة يحتاج إلى جهود مضنية من قبل الأهالي، ومنها زيادة غرف البناء كل عام لاستيعاب الصفوف الجديدة والتي كان يتم تأمينها من خلال جمع التبرعات وتأمين المساعدات المالية والعينية لأبناء العائلات المعوزة أو التي افتقدت معيلها.

ويؤكد علاء الدين بأن الأمر وصل إلى حد تجميع ثمن المحروقات اللازمة لتدفئة المدرسة خلال فصل الشتاء من مؤنة مدافئ منازل أبناء الحي، من دون أن تنتهي تلك المعاناة حتى الآن.

ويستعيد علاء الدين بألم وحسرة بالغتين الغياب شبه المطلق لدور وزارة التربية في معالجة المشكلات التي تعانيها المدارس الرسمية و«المتروكة» لمصيرها على أن يتدبر أهالي التلامذة ومديروها أمرهم بالتي هي أحسن، وفقاً للقول السائد «عسكري دبّر راسك».

إنها حال التعليم الرسمي في منطقة الهرمل، حيث بات واقع القطاع سيئ جداً ومشكلاته لا تعد ولا تحصى ورمزاً للحرمان والفقر اللذين ترزح تحت عبئهما الأغلبية الساحقة من أبناء المنطقة وتبدو مظاهره أكثر فجاجة كلما توغلنا في الأودية والدساكر البعيدة عن مدينة الهرمل.

يقارب عدد المدارس الرسمية في قضاء الهرمل الثلاثين مدرسة موزعة على مراحل التعليم ما قبل الجامعي بين مدينة الهرمل والقرى المحيطة بها وصولاً إلى المناطق الجردية النائية وهي مراحل رياض الأطفال والتعليم الأساسي والثانوي وعدد للتلاميذ يصل إلى حوالي الأربعة آلاف وخمسمئة تلميذ وكادر تعليمي يتجاوز الخمسمئة مدرس بين ملاك ومتعاقد.

يؤكد مدير مدرسة الهرمل النموذجية هادي عاصي بأن انطلاقة العام الدراسي في المنطقة شهدت إرباكا كبيراً بسبب تأخر وزارة التربية في الإعداد لبداية السنة الدراسية، الأمر الذي أصبح شيئاً روتينياً يحدث مع بداية كل عام دراسي من غياب التخطيط المسبق واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة والمراسلات قبل بدء العملية التعليمية التي تترافق مع الكثير من التعاميم والقرارات الإدارية المعيقة لسير عمل المدارس بشكل طبيعي. وتبرز مناقلات أفراد الهيئة التعليمية والتي تحصل كثيراً من دون ألأخذ بعين الاعتبار حاجة المدرسة للمعلم المنقول منها أو إليها من المعوقات، كما إنجاز الاستمارات المطلوبة.

ناهيك عن عدم توفر العديد من الكتب المدرسية في المكتبات حتى الآن، واستمرار الفوضى وعدم الاستقرار في وضعية الكادر التعليمي الذي يتشكل في أغلبيته الساحقة من المتعاقدين، بكل ما ينجم عن ذلك من عدم استقرار وظيفي واجتماعي ومعيشي للمدرس سيكون آخرها ما يترتب من نتائج للمباراة التي خضع لها المدرسون المتعاقدون مؤخراً وصدور نتائج تلك المباراة مما يعيد عملية توزيع الساعات و ضرورة وضع برامج جديدة وبالتالي عودة العام الدراسي إلى نقطة الصفر.

التفتيش التربوي

ويستعرض مدير آخر، فضّل عدم ذكر اسمه، المزيد من المشكلات التي تواجه التعليم الرسمي عموماً وهذا القطاع في منطقة الهرمل خصوصاً، ويأتي على رأسها الدور المحدود وغير الفاعل للتفتيش التربوي والإداري في ملاحقة التقصير والفوضى التي تحكم عمل الكثير من المديرين والكادر التعليمي الذي بات عدد كبير من أعضائه غير منتج، إما بسبب التقدم في السن أو تدني المستوى الأكاديمي وغياب التدريب والتأهيل الفاعل ، ناهيك عن عدم تقويم وتعديل هذه المناهج استناداً للأخطاء التي برزت منذ تطبيقها.

وتزداد المشكلات تفاقماً وفقاً لخط بياني متصاعد كلما ابتعد موقع المدارس عن مدينة الهرمل باتجاه الأودية والمناطق الجردية النائية وصولاً إلى الحدود اللبنانية – السورية شمالاً ومنطقتي عكار والضنية غرباً. خصوصاً وأن العدد الأكبر من سكان القرى في هذه المناطق قد غادروها نحو أحزمة البؤس في المدن البعيدة بحثاً عن لقمة العيش، ولم يبق إلا القليل ممن انقطعت بهم سبل الرحيل، واستمروا بالعيش في ظل غياب الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة, وهو ما انعكس انخفاضاً في عدد تلامذة المدارس المنتشرة فيها إلى الحدود الدنيا ووصل في بعضها إلى حوال العشرين أو الثلاثين تلميذاً، مما يهدد المدارس بالاقفال.

ويعرض مدير مدرسة «جردية» المعضلات التي تواجه هذه المدارس مشيراً إلى «إن أبنية المدارس الرسمية الجردية لا تتمتع بمواصفات بالحد الأدنى وهي غالباً ما تتألف من غرفتين أو ثلاث، مما يدفعنا أحياناً إلى جمع أكثر من صف في غرفة واحدة، إلى جانب مشكلة أخرى تتعلق بتأخر التلاميذ في الالتحاق في المدرسة بسبب انتقال ذويهم خلال فترة الصيف والخريف إلى الجرود العالية لزراعة أراضيهم أو تربية الماشية». ويؤدي الواقع إلى تدني المستوى التعليمي الذي يحصل عليه التلامذة «النائون» ناهيك عن أنهم ضحايا للتسرب المدرسي، وبنسب كبيرة جداً.

مدارس مهددة بالإقفال

يؤكد عضو الهيئة الإدارية لرابطة التعليم الأساسي في البقاع علي المصري بأن القطاع هو في الحد الأدنى المطلوب لتعليم أبناء الطبقات الفقيرة في المدن والأرياف، وهو «يتعرض للتهميش عاماً بعد آخر لمصلحة التعليم الخاص، بما يعني ذلك من ارتفاع في كلفة التعليم والدفع بأعداد جديدة وكبيرة من الأطفال إلى الشارع وجعلهم عرضة لكل المخاطر والأوبئة الاجتماعية،والتحاقهم بجيل العاطلين عن العمل. ويلفت المصري إلى أن انهيار التعليم الرسمي يبدو أكثر تسارعاً في المناطق الريفية ومنها الهرمل بعد أن وصل إلى حد الخطر بإغــلاق عدد من المدارس الرسمــية في المناطق الجردية نظرا لانخفاض عدد طلابــها، بسبب حال الفقر المدقــع والمتزايد ونزوح العدد الضئيل من السكان الذين ما يزالــون يواجــهون العيش في تلك المناطق نحو أحزمة البؤس في العاصـمة بيروت والمدن الكبرى.

ويقدم المصري دليلاً واضحاً على عقم السياسة التربوية المعتمدة والتي تشكل أساساً للمشكلات التي تتناسل من رحم بعضها البعض وذلك من خلال طريقة معالجة قضية المدرسين المتعاقدين التي تم تقديمها كخطوة من أجل اقفال باب التعاقد وإعادة تفعيل كلية التربية ودور المعلمين والمعلمات من أجل رفد الجسم التعليمي بالدم الجديد المدرب والكفوء، فإذا بباب التعاقد مفتوح على مصراعيه في المناطق التربوية حيث طلبات التعاقد الجديدة تبدو مكدسة فوق مكاتب الموظفين بانتظار إلحاق أصحابها بالمدارس الرسمية مجدداً. ويدفع الوضع إلى الاعتقاد بأن تطبيق القانون (442) القاضي بتثبيت المدرسين المتعاقدين وآلية الامتحانات التي اعتمدت تهدف إلى تصفية التعاقد القديم بغية استبداله بتعاقد جديد، أكثر مما كانت خطوة من أجل اقفال ملف التعاقد بكل المشكلات الناجمة عنه، كقضية متفجرة دائماً وسبب للإضراب والتظاهر من أجل حصول المدرسين المتعاقدين على الحد الأدنى من حقوقهم.

ويتوقف مدير المدرسة النموذجية هادي عاصي عند تجربة مدرسته التي أنشئت بالتعاون بين القطاع الخاص ووزارة التربية مما أدى إلى تأمين بناء لائق والكثير من التجهيزات وكادر تعليمي جيد بسرعة قياسية من خلال تجاوز الروتين الإداري عبر علاقة مباشرة بين وزارة التربية والجهة الخاصة التي بادرت إلى الشراكة مع الوزارة في إنشاء المدرسة. ويأسف عاصي لأن مدرسته تتحول رويداً رويداً إلى مدرسة رسمية كاملة تعاني من كل المشكلات التي تضرب قطاع التعليم الرسمي وخصوصاً في مرحلتي الروضة والتعليم الأساسي، مشيراً إلى أنه لا بد من التخطيط المسبق من قبل وزارة التربية لانطلاق السنة الدراسية بحوالي الشهر وتفعيل دور التفتيش التربوي والإداري بشكل مستمر وإعادة الاعتبار لدور كلية التربية ودور المعلمين والمعلمات في إعداد الكادر التعليمي الجديد.

ويختم العضو في الهيئة الإدارية لرابطة التعليم الرسمي في البقاع علي المصري بالقول أن المدخل لمعالجة المشكلات التي يرزخ تحت عبئها التعليم الرسمي يبقى في إعادة تفعيل أدوات العمل النقابي من أجل إطلاق تحرك فاعل ومتواصل لمواجهة مجموعة تلك المشكلات والأزمات المستعصية والتي بدأت تقترب بالتعليم الرسمي عموماً والتعليم الأساسي منه على وجه الخصوص من الانهيار شبه الكامل, وتحويله إلى بؤرة لتخريج شبه الأميين والعاطلين عن العمل وخير دليل على ذلك أنه حتى الحقوق المكتسبة للمعلمين في هذا القطاع قد دخلت في مهب الريح.

ليست هناك تعليقات:

شهداء المقاومة..منارات الهرمل


من صور الأصدقاء: جرود الهرمل

جارة العاصي ترحب بكم ضيوفاً.. على الخير دائماً

مسجد الوقف.. الحنين الى الأيام الأولى