2009/08/12

الهرمل وجرودها:

الأولى على صعيد السياحة البيئية والرياضة المائية
ركان الفقيه
تركن في أقصى الزاويــة الشـمالية الشرقيــة لسهل البقاع، تغرق في العــزلة والصــمت وتحلم بان يأتي الوطـن الــيها يوما طالباً يدها يهديهــا الطــرحة البيضــاء ويمــضي بهــا إلى قرانــهمــا الأبــدي.
انها منطقة الهرمل التي تحولت بدءا من سهل القاموع عند سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية وحتى قرنة الرجال العشرة المطلة على البحر المتوسط غربا، إلى مدى سياحي متميز، تتضافر العوامل الطبيعية والأثرية والاجتماعية، موفرة لها كل المقومات المطلوبة التي تجعلها مقصدا سياحيا يزخر بكل ما يتمناه الزائر من مناظر خلابة وهدوء وراحة. تنبسط المساحات السهلية الواسعة من جهة والجبال العذراء المزينة بأشجار اللزاب والشوح من جهة أخرى لتضما بينهما نهر العاصي مع خضار ضفتيه وتحتضنا الكثير من المواقع الأثرية الشاهدة على حقب تاريخية عديدة مرت بها المنطقة. بات القاموع الروماني رمزها والحارس الأمين والدائم لمدخلها الشرقي، يستقبل القادمين إليها في أي وقت. وتطول وتتعدد أسماء المعالم الأثرية الأخرى، من دير مار مارون وقصر البنات بالقرب من منبع نهر العاصي، إلى قناة زنوبيا التي جرّت ملكة تدمر بواسطتها مياه النهر يوما حتى ربوع مملكتها في تدمر، وكنيسة بريصا البيزنطية ولوحتي الملك الأشوري نبوخذ نصّر اللتين تخلدان انتصاراته وإعجابه بجمال المنطقة. تضاف إلى كل ذلك طاحونة العميرية التاريخية وغيرها الكثير من الآثار التي لا تزال مدفونة إما في باطن الأرض أو في غياهب الإهمال والنسيان. ويحيط بكل تلك المواقع التاريخية جمال طبيعي متميز يبدأ بمشهد انسياب مياه نهر العاصي الغزيرة والنقية والشلالات العديدة التي يزخر بها مجراه والمقاهي والمطاعم وأندية الرياضة المائية التي تمتد على طول ضفتيه. وتنبسط إلى الجهة الغربية من النهر مدينة الهرمل بمنازلها الموزعة فوق مجموعة من التلال الصغيرة يتوسطها المنتزه القديم للمدينة المعروف بـ «منشية الوقف» وقد ارتبط وجوده بتاريخها والكثير من الأحداث التي شهدتها. وتزيّن أشجار الدلب والصفصاف الباسقة المنشية وهي شبه الحديقة الوحيدة في الهرمل. وتخترق المدينة بساتين عديدة، ويمتد على طول حدودها الجنوبية وادي الجوز الذي كان محطة للكاتب جبران خليل جبران ومكانا تجري فيه أحداث قصته القصيرة «أرم ذات العماد». وإذا كانت حدود المدينة تنتهي عند سفح سلسلة جبال لبنان الغربية فإن مداها الطبيعي يستمر صعودا داخل الأودية الخلابة حتى أعالي جرود الأودية والسّوَح ومرجحين وجباب الحمر وعميري التي باتت مقصداً لرواد المشي في الطبيعة والسياحة البيئية. وتوفر الجرود للزائر كل ما يحتاج اليه كي يطيل الإقامة في ربوعها المتوجة بروح كرم أهلها وترحابهم بالضيف ما يشعر السائح بالدفء والألفة كأنه داخل عائلته. وإذا كانت المنطقة تختزن كل تلك الثروة السياحية الهائلة فإن العقبة الرئيسية التي تمنع حصول النقلة النوعية المطلوبة في صناعة السياحة في المنطقة تبقى تلك المسافة البعيدة التي تفصلها عن العاصمة بيروت وسوء الطريق المؤدية اليها والشاهدة على حرمانها الذي، وإن كان «النقمة» التي حلت بأبناء المنطقة منذ عقود طويلة، فإنه ربما كان له «نعمة» وحيدة في إبقاء المنطقة بعيدة عن مظاهر التلوث الذي تجلبه كل حركة للنمو الاقتصاد من نفايات المصانع والضوضاء ودخان السيارات. وتتربع المنطقة اليوم على رأس جدول المناطق المخصصة للسياحة البيئية وتلك المرتبطة بالتنمية المستدامة وهي مقصودة، على إمكانياتها، من كل أصقاع العالم، خصوصا مع انتشار المشاريع السياحية البيئية في أرجائها التي توفر للسائحين كل أسباب الراحة من خيم ومنازل الطين والحجر «الغشيم» والطعام البيئي.مشروع لـ"تعاونية سنديانة" في الكواخ ـ قضاء الهرمل

يشعر الزائر بالرهبة كلما توغل بعيدا في السهل شبه الصحراوي عميقاً في قلب البقاع الشمالي. تخفف المنازل المتناثرة كحبات قمح «فلتت» من بين أصابع فلاح، من وطأة الإحساس الثقيل بالوحشة والسكون. قمح يبذره فلاح شرع يحرث السهل الفسيح باكرا، وسكون تكسره أكشاك بيع السجائر ورائحة الخبز العربي المنبعث من أفران الحطب والدكاكين القديمة التي تتحلق شاخصة إلى الطريق، تتشبث به، وتنتظر العابرين أبدا إلى البعيد.
يستمر مشهد القحط المترامي الأطراف معززا بآلاف الحفر والمطبات التي تملأ الطريق المؤدية إلى مدينة الهرمل، ما يفاقم الشعور المتعب بعبء الرحلة بين «عاصمة الوطن» و«عاصمة القضاء» حتى الثمالة.
تبدو مسافة المئة وخمسين كيلومترا التي تفصل المدينة عن بيروت أطول بكثير مما هي في علوم السحاب والرياضيات ومعها الجغرافيا. مسافة، بالرغم من أنها الأبعد بين العاصمة وآخر «دسكرة» في لبنان، لكن ذلك الشعور بالإعياء وان طال لبعض الوقت، فإنه سرعان ما يتلاشى مع الإطلالة الأولى على نهر العاصي. هناك يرسم النهر الذي عصي على المجرى الطبيعي لأشقائه الأنهار الأخرى قي لبنان، يشق طريقه الخاصة. يخط مشهداً آخر يضج بالحياة والجمال على حواف تمتد بعيدا بمحاذاة مجراه. يروي العاصي قصة وجود بدأت منذ الأزل حين ملأت النسوة جرارهن ذات صباح من المياه العذبة، بما يشبه خفر الصفصاف وعدن إلى منازل الطين والقصب عند سفوح التلال المشرفة على النهر.
مع العاصي ترتسم الملامح السياحية الأساسية للهرمل ومحيطها، هي هبته وهو شريانها الدائم الذي يمدها بالحياة ليس على الطريقة الشاعرية للعلاقة بل فعلياً وخصوصاً في ظل المناخ شبه الصحراوي التي يطبع المنطقة.
تبدو أهمية القطاع السياحي النامي على ضفتي نهر العاصي جلية، يعززها انتشار المقاهي والمطاعم وأندية الكانوي -كاياك والرافت. تعود أسباب النمو الكبير للقطاع في سنوات قليلة بعد فترة من المراوحة إلى جملة عوامل. طبعاً يأتي على رأسها جمال طبيعي أخاذ يلف ضفتي النهر ويجمع بين الخضرة والمياه والفرصة لممارسة شتى أنواع السياحة كالرياضة المائية والنزهات العائلية والمشي في بيئة لم تتلوث بعد وسهول تسمح باحتضان هواة السياحة الريفية في مدى جغرافي واسع غير متوافر في مناطق أخرى من لبنان تختنق بالعمران.
في الهرمل، يحافظ المجتمع الريفي على خصوصية تتجلى أكثر في الأودية والجرود التي لا تزال على «خامها» وعاداتها خصوصا. وهي ميزة هامة جدا لاجتذاب السياح الذين يهتمون بالتعرف إلى عادات الريف وتقاليده ومأكولاته ولباسه وتراثه، والمشتاقين للقمة بعيدة عن استخدامات الأسمدة والأدوية الكيميائية وألبان واجبان البودرة. ويتعزز اللقاء بالصفة الرئيسية لأبناء المنطقة الذين يتمتعون بروح الضيافة والعفوية، ناهيك عن الآثار التاريخية التي تعود إلى مراحل زمنية مفصلية في تاريخ المنطقة كحقبة الحضارات الرومانية والآشورية والصليبية والأموية وغيرها، وارتباطها وتكاملها مع آثار المتكاملة مع مثيلاتها في سوريا والأردن.

متنزهات العاصي

يفوق عدد المؤسسات السياحية الموجودة على نهر العاصي الخمسين مؤسسة تؤمن فرص عمل لما يقارب الثلاثمئة موظف بين عامل وإداري. ومن المتوقع أن تستقبل هذا العام أكثر من مئة وخمسين ألف زائر، وان كانت غالبيتهم الساحقة من اللبنانيين الذين يقومون بالسياحة الداخلية ويوفرون دخلا لا بأس به للمنطقة.
ويتحدث صاحب مطعم العاصي عبد المنعم عابدين ببعض التفاؤل حيال الموسم السياحي الموعود لهذا العام، لكن بكثير من الحسرة نظرا لحجم المشكلات التي تعوق نمو القطاع بالرغم من أهميته الكبيرة بالنسبة للدورة الاقتصادية للمنطقة. ويقول عابدين إن «الأحداث التي شهدتها البلاد على مدى الأعوام الماضية أثرت على القطاع، بدءا من عدوان تموز 2006 الذي شكل «رصاصة الرحمة» على رأس القطاع السياحي في الهرمل حيث استهدف حوض العاصي والمقاهي المنتشرة على جنباته بالعديد من الغارات الجوية التي دمرت قسما كبيرا من المرافق بما فيها جسر العاصي والمقاهي المحيطة به».
وانتهى عدوان تموز وما تلاه إلى جملة من التوترات الأمنية والخلافات السياسية التي عاشتها البلاد. ويشير عابدين إلى «ما يحصل منذ مدة وجيزة من حوادث سرقة السيارات على الطريق الرئيسية المؤدية إلى المنطقة، مما سبب شل الحركة السياحية، إضافة للشرذمة وعدم التنسيق الذي يسود أوساط العاملين في هذا القطاع وينعكس سلبيا، يجعله يراوح مكانه، بدءا بنوعية الخدمة للزبائن وتضارب الأسعار، وانتهاء بمشكلات الصرف الصحي ومياه الشفة وضرورة الحفاظ على بيئة النهر، حيث بالكاد تستطيع المؤسسات السياحية في المنطقة القيام بالأعباء المطلوبة منها وتأمين شروط الاستمرار».
«إن للقطاع السياحي في منطقة الهرمل مشكلاته الخاصة والجوهرية»، وفق رئيس لجنة السياحة والبيئة في بلدية الهرمل الدكتور فؤاد علام «وعلى رأسها غياب الاستثمارات الحقيقية في القطاع وخصوصا لجهة بناء فنادق بمواصفات عالية توفر للسائح فرصة البقاء في المنطقة أياما عدة، ناهيك عن سوء الطريق المؤدية إليها، علما أنها الأبعد مناطقياً عن العاصمة بيروت، مما يجعل الوصول إليها شاقا جدا»، ويضيف علام «النظرة المسبقة للمنطقة التي تصنفها بالإجمال ضمن خانة سياسية وطائفية متزمة وضيقة».
ويلفت رئيس المجلس البلدي لمدينة الهرمل مصطفى طه إلى أن المجلس قام بمجموعة من المبادرات لتنشيط الحركة السياحية في المنطقة، ومنها وضع إعلان يتضمن الميزات السياحية للمنطقة على الطريق المؤدية من العاصمة بيروت إلى الهرمل وطباعة وتوزيع المنشورات عن المعالم الأثرية والسياحية فيها وتنظيم أكثر من دورة تدريب لعمال المطاعم وإقامة المباريات في رياضة الكانوي - كاياك بالتعاون مع الأندية المتخصصة باللعبة، وقد سعت البلدية لتشجيع المستثمرين في هذا القطاع ومنها إقامة مدينة لألعاب الأطفال».
يبقى «الأمن والاستقرار السياسي الشرط الأول لانطلاقة جيدة للموسم السياحي في منطقة الهرمل»، يقول رئيس بلدية الشواغير علي خضر الحاج حسن وهي البلدية الشريكة لبلدية مدينة الهرمل في الإشراف على المقاهي والمطاعم المنتشرة على ضفتي العاصي. ويشير الحاج حسن إلى ان البلدية التي يرأسها سعت إلى شق مسافة 44 كيلومتراً من الطرق المؤدية إلى عدد من المؤسسات السياحية بالتعاون مع الجيش اللبناني، كما ساهمت بإنارة المؤسسات ومحيطها بالتعاون مع وزارة الموارد المائية والكهربائية، وتنظيم حملة نظافة للنهر بالتنسيق مع أندية الكانوي - كاياك. ويطالب الحاج حسن الوزارات المختصة القيام بدورها، خصوصا أن العديد من المشكلات لا يمكن حلها إلا من قبل هذه الوزارات كاستكمال تعبيد الطرق التي شُقّت وإنجاز شبكة الهاتف الثابت وتقوية إرسال الهاتف الخلوي.
ويتوقف المشرف على مركز التدريب الفندقي في الهرمل جمال حمادة عند المستوى الخطير للفوضى التي تسود القطاع السياحي في المنطقة وهو ما بات يتطلب وجود أداة نقابية توحد جهود المستثمرين والعاملين فيه بدءا بوضع صيغة لتسوية الأوضاع القانونية لمؤسساته وتشكيل أداة ضغط حقيقية وفاعلة من أجل إنجاز واستكمال البنى التحتية المطلوبة من قبل الوزارات المختصة كالصرف الصحي ومياه الشفة والطرق، وخصوصا الطريق الرئيسية المؤدية إلى المنطقة.
ويؤكد منسق مكتب التنمية المحلية في الهرمل والممول من الاتحاد الأوروبي المهندس عبد الغني بليبل أن المنطقة تزخر بالمقومات السياحية والأثرية حيث تأتي أهمية القطاع السياحي بالنسبة لتنمية المنطقة في المرتبة الثانية بعد القطاع الزراعي، مشيراً إلى أنه بات من الضرورة بمكان وضع خطة شاملة من قبل الهيئات المعنية من بلديات ومجتمع أهلي ووزارات معنية لتطوير وتأهيل القطاع بدءا بمستوى الخدمة الفندقية ودعم التجارب الرائدة في المنطقة على مستوى السياحة البيئية والرياضات المائية وبالتكامل مع المناطق السياحية القريبة كمدينتي طرابس وبعلبك من خلال برامج سياحية منسقة. ويرى بليبل «ضرورة توفير كل الخدمات التي تدفع السائح للبقاء في المنطقة أطول مدة ممكنة من خدمة فندقية لائقة إلى تنظيم مجموعة من الزيارات والنشاطات الترفيهية والمميزة والطعام بمواصفات جيدة، وخصوصا ان الهرمل تتميز بسمكة الترويت التي يختص بها نهر العاصي».

قاموع الهرمل

يستقبل قاموع الهرمل القادمين إليه شامخا على قمة إحدى التلال الشرقية في أعلى نقطة من سهل البقاع الشمالي. يبعد عن المدينة مسافة ستة كيلومترات ويفصله عنها وادي العاصي ونهره. تعود قصة بناء القاموع الأشبه بالهرم إلى حوالى سنة 175 ق. م. في عهد الحاكم الروماني (اليسندرو مانو).
ويرتفع القاموع ثلاث طبقات من الرخام التي شيد فوقها الهرم ويبلغ ارتفاعه حوالى 27 مترا. وتبرز هندسة هذا الأثر التاريخي على جوانبه الثلاثة لوحات منقوشة تمثل صورا ووجوها لبعض الملوك وهم يمارسون الصيد.
وتحكى حول القاموع القصص، فمنهم من يروي انه مدفن لأحد الأمراء السومريين والذي كان في رحلة صيد، ومنهم من يروي انه كان برجا تستخدمه الجيوش والتجار كمنارة ولكن الثابت انه معلم أثري تتميز به مدينة الهرمل وحارسا دائما لبوابتها الشرقية.

صخرتا بريصا

تستقر صخرتا بريصا متواجهتين عند مدخل واديها على بعد تسعة كيلومترات من مدينة الهرمل. تبدو المنطقة جميلة وخضراء وذات هواء عليل. وربما كان جمال المشهد وعناء السفر والحروب قد أغويا الملك البابلي نبوخذ نصر بإعطاء الأمر بنقش نص باللغة المسمارية على هاتين الصخرتين المتقابلتين يوثق أخبار الحملة التي قام بها انطلاقا من بلاد ما بين النهرين وصولا إلى نهر الكلب مع صورة له وهو يصارع أسدا ورسوما عدة لأشخاص آخرين.
تقع الصخرتان على ارتفاع 1250 متراً عن سطح البحر ومسافة 158 كيلومترا عن بيروت حيث يعبر احد أبيات الشعر عن مكنون الملك البابلي الذي شاء التوثيق لحملته وتخليد ذكرى الشهداء الذين سقطوا إلى جانبه ويقول: تلك آثارنا تدل علينا/ فانظروا بعدي إلى الآثار
جريدة السفير

ليست هناك تعليقات:

شهداء المقاومة..منارات الهرمل


من صور الأصدقاء: جرود الهرمل

جارة العاصي ترحب بكم ضيوفاً.. على الخير دائماً

مسجد الوقف.. الحنين الى الأيام الأولى