بومدين الساحلي
عصر الأربعاء الماضي، في شارع مكتظ بالناس، وعلى مرأى من عشرات العابرين، اللاهثين وراء لقمة عيش بعيدة المنال ، قتلت «حــنان هاشم»، الصبية التي لم تبلغ السادسة عشرة بعد.
أصابها رصاص «طائش»، على اثر إطلاق للنار، لم يقع على خلفية الاشتباه بعمالة لإسرائيل ، بل بسبب «تشفيط» و«تلطيش» ليس أكثر.
عصر الأربعاء الماضي، استعجلت أم وصول ابنتها تحمل لها علبة دواء من الصيدلية، تنتظرها كي تستكمل واجباتها المدرسية، لكن الفتاة تأخرت، وبقي كتابها مفتوحا أبدا على درس الغياب.
دمٌ بريءٌ آخر أُريق في الهرمل على مرأى كل «أهل البيت»، دمٌ أصاب وجوه الجميع بلا استثناء في ذلك العصر القاتم الموغل في فجيعته، لكن الجميع كالعادة سيسرع دون شك كي يغتسل من آثاره بدلا من أن يتعمد ويتطهر ببراءته: صوت المعركة يعلو فوق كل صوت.
طبعا، لم تمر الحادثة مرور الكرام: القوى الأمنية حضرت بقوة، أقامت الحواجز ودققت في هويات المارة وفتشت سياراتهم، وربما تقوم ببعض المداهمات معروفة النتائج سلفا، وربما تبقى ليوم آخر أو يومين أو أكثر بقليل، لكنها في المحصلة ستعود إلى قواعدها سالمة في انتظار أن يأتي من يقوم بتطبيق الأمن واحلال العدالة في هذه المساحة المنسية من «الوطن» على امتداد العهود «الرجعية» منها و «الوطنية».
قبل سنة ونيف، واثر حادثة مماثلة روّعت الآمنين من أهالي المدينة ، جرى اجتماع دعا اليه قائمقام الهرمل وحضره ممثلون عن «عشائر» الهرمل وأحزابها وفي مقدمتها «حزب الله» و «حركة أمل» وطبعا القوى الأمنية بشتى شعبها وفروعها ـ غاب عنه وزراء ونواب الهرمل في ذلك الحين مع أنهم في العادة يحرصون ألا يفوتوا حضور واجب عزاء -. استعرض الحاضرون الواقع المرير الذي تعيشه المدينة وأهلها واجمعوا على ضرورة معالجته عبر رفع الغطاء عن كل مخالف مهما علا شأنه، وطالبوا القوى الأمنية بأن تؤدي دورها كاملا، وكلفوا القائمقام صياغة ميثاق شرف بذلك يصار إلى توقيعه وإعلانه في اجتماع لاحق يدعو إليه.
وخرجت صحف اليوم التالي تزف بشرى الاتفاق الى الأهالي، لكن، قبل أن يجف حبر المطابع، كانت التدخلات في عمل القضاء والأمن من مراجع سياسية واجتماعية حضرت أو مُثِّلت في الاجتماع ، قد ألغت سريعا مفاعيله، أما ميثاق الشرف فقد أصبح في خبر كان ويُسأَلُ سعادته عن الاسباب .
الكثير من ابناء الهرمل، من «عشائر» و«عائلات»، انتشروا في أصقاع «الوطن» هربا من جورٍ لاحقٍ بسبب الأوضاع الاجتماعية في بلدتهم، وكثيرون ممن لم تسعفهم أحوال العيش وبقوا قابضين على جمر البقاء فيها، يتفقدون أبناءهم مساء كل يومٍ ويحمدون الله على منة قضاء ليلة أخرى معهم تحت سقف واحد، بعدما أصبح الرصاص المتجول، في السنوات الماضية، عادةً أسبوعية بأحسن الأحوال في ظل غياب تام للأمن وأهله الذين لا يحضرون إلا لقهر فقير في مخالفة بناء أو كهرباء.
في السابع من حزيران الماضي، جدد ابناء المنطقة ثقتهم بـ «المقاومة وأهلها» على أمل بناء « الدولة القوية العادلة»، وكلهم أملٌ أن الذي «حمى» الوطن لن يفرط في حماية عائلاتهم .
منذ ليل الاربعاء الماضي وحتى أجل محتوم غير محدد، ستبقى أم تنام بعيون مفتوحة، تنتظر عبثا عودة «حنان» كي تنهي الفصل الأخير من كتابها المدرسي، لكن «حنان» لن تأتي، وستظل أم معلّقةٌ أبدا على حبل الوجع.
هل يفتح هذا الدم الفائق النقاوة باب خلاصنا؟ هو دمٌ ثقيلٌ ثقيلٌ ثقيل، سيحمله الجميع الى يوم «الدين» إن ضُيِّعَ في دهاليز السياسة .
كافر من يُفرِّط بدم «حنان» عبر تدخله في عمل القضاء والقوى الأمنية، وأكثر كفرا من لا يسعى كي تغفو «الرعية» آمنة على غدها.
... أما السؤال المر الذي يبقى معلقا على شفاه العاجزين الخائفين اللاهثين وراء لقمة شريفة مرّة فهو: من المسؤول ؟!... ما الحل ؟!... من هي الضحية التالية على قائمة هذا الفلتان الأمني المبرمج؟!
(السفير 13-6-2009)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق