2008/12/18
في وداع المربي الاستاذ احمد المسمار
صهيل لا يخبو وقامة تتجدّد
سهيل الطشم
عصر ذلك اليوم نهض فوق أكتاف مشيعيه، أذهلني أن أراه في مركب حرّم على نفسه أن يمتطيه كان مطية الوطن، يساكن قضية لم يشرّع لنفسه لها إلا العشير الأنيس أو الجليس اللطيف مع ما عرف عنه من لاءات لو جئت أحصيها على مدى نصف قرن لملأت خوابي الحكام العرب الملأى بالفراغ المريع والمعدة دائماً لتراجم خزيهم المستديم. كانت الطلة من خلف دموع مودعيه ابتسامات تعد بأنه عائد للتو، حاضر أبداً، ها هو ذا يتأبط أشياءه التي تزدحم فيها موضوعات الساعة، روزنامة الأحداث، رصد المبادرات، مواكبة اليوميات، هو هكذا مربك لمن تعاقد معه على موضوع، مقلق لمن حاول أن يستغفل منه غفلة مصطنعة، محيّر لأولئك الذين عكّر صفو صفقاتهم. ولكم سحب البساط من تحت أرجل من ظنوا أنه قد ينزلق إلى مهاوي الدنايا والمكاسب.
عصر ذلك اليوم استراح الملف من أناقة تنظيمه له وتداخلت القضايا في ذاكرتي لأن المنسق ملته يضع اللمسات الأخيرة على شريط الدنيا حيث أثقلها بأصداء رفضه، من أين لهذا أن تحضره هموم الحاسرات في غزة تحت غطاء طحين أو بهجة رغيف والحافيات في عرسال فوق بئر متح ماؤه، كيف لذاك الإنسان أن تجتمع لديه الصورة تجمع بين أطفال الهرمل في مواسم البرد والمدارس مع قصائد محمود درويش في قريته العزلاء المنسية وشوارعها بلا أسماء... شد ما كان يفاجئنا حين يفتتح جلسة المجلس الثقافي وقد حبّر زوايا الأوراق بالهموم التي ينتزع منا اهتماماً فيها مع أننا كنا نلجأ إلى زوايا التبرير أن ما لنا ولهذه المنوعات في حين لم نعدُ كوننا مجلساً ثقافياً، فكان يثقل الطرف خجلاً بدعابته الشيقة وهل جئنا إلى الثقافة من مايكل جاكسن أو شاكيرا مثلاً.
كنا دونه في العمر لسنوات قليلة وما إن حلّ فينا ريش الصبا بعد زغب الحواصل حتى شهدت حركة التحرر الوطني قيامة حدث هائل عنيت انطلاقة المقاومة الفلسطينية، فكان أن سكنتنا هموم من طرازات جديدة وتبهرنا في سحر وهجها مع ما نحن عليه من فقر وبعد عن مراكز التعليم والمعرفة... وعلى طريقته جعل من حسينية المرج متراساً يؤنسنا أن نستريح إليه ظهيرة كل يوم ونحن عائدون إلى المدرسة حيث يتحول اللقاء إلى ندوة يومية تطال مختلف جوانب الحياة، أشهد أن تلك الفترة تخرّج فيها نفر من أبناء بلدتي (أفخر بهم) يتلاقون في موسم تشييع أحمد... عيونهم تروي تلك الحكايا ويتمتمون باستمطار الرحمات يلطفون بها طين قبره.
وكذلك في الاجتماعات التي امتدت زهاء ربع قرن وكان الصالون الذي حفظنا فيه عن ظهر قلب ثنيات المقاعد والطراريح والمساند والألوان التي زايلها المكوث الطويل والأرائك التي حفت تزاويقها تحت رؤوس الضيوف الغرباء الذين أدركهم الليل بعد نقاش يأبى أحمد إلا أن يثمّر لوظائف النضال والتجلي المتوخى.
شهدت الكثير وقالوا لي الأكثر فيما لم يكن لي شرف المشاركة، والمحطة الأخيرة صراع مع لؤم المرض حيث لم يسجل له زائروه نبوة أو آه، وكل ما أثر عنه استسلم إلى سماع لم تعرفه عنه إلا في آداب المجالسة، وبعض وجوم لعله كان يستحضر الوداع اللائق المنتظر وهل يخفى على أحمد ما يغمره عائدوه من أسرار مرضه؟
وداعاً أحمد كأني بك تعود في مقابض الحجارة تحت سماء رفح
وفي ترانيم بنادق المقاومين في جبل الشيخ وعلي الطاهر
وفي المواويل الفلسطينية على بيادر رام الله
وفي أعناق شتول التبغ الجنوبي
وفي كل طرفة كنا نختطفها منك بعد استفزاز
وكلما ضوّأ في القرية مصباح جديد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)

من صور الأصدقاء: جرود الهرمل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق