2010/06/20

البقاع: أرجوحة القمر وديوان شعر الفرح..


مقال في جريدة السفير للكاتب الكبير الاستاذ
طلال سلمان


يمتد سهل البقاع كلوحة تشكيلية أسطورية الحجم بألوان الطيف، يتجاور فيها الأخضر والأصفر والأحمر والرمادي، في حين تقوم سلسلتا جبال لبنان الشرقية والغربية بدور الإطار مضفية اللون البني بتدرجاته الوردية في لعبة النور والظلال التي تشارك فيها أشعة الشمس شروقاً وأصيلاً وغروباً فتضفي بهاءً رصيناً على ذلك المشهد الذي يشارك التاريخ والجغرافيا في تكوينه.
ينبسط السهل كامتداد للفالق التكويني للمنطقة ما بين أقصى الشمال السوري عند جبال طوروس، وما بين الحولة وبحيرة طبريا في فلسطين حيث ينتهي تدرج جبل الشيخ بهضبة الجولان التي تشكل نهاية سلسلة الجبال الشرقية...
على كتف السهل، وفي الطريق إلى القمم العالية التي تبلغ الذروة عند القرنة السوداء المجاورة لظهر القضيب، في أعالي سلسلة جبال لبنان الغربية، تتوالى سلسلة من التلال والهضاب فتحتضن القصبات والقرى التي يتزايد فيها العمران، من حول ما كان قلاعاً وثكناً لجيوش عبرت هذا السهل من الشرق البعيد إلى البحر المتوسط، غرباً، أو من الشمال الأعظم بعداً إلى الجنوب في اتجاه بيت المقدس...
وفي الأودية العميقة التي تنطوي على عزلتها في أحضان الجبال العالية يمكنك أن تجد مزارات لأولياء ونسّاك اختاروا ملاجئ لهم، بعيداً عن الممرات الإجبارية، في حمى القمم التي تقوم بدور الحرس الإمبراطوري لمكامن السحر في الطبيعة الخلابة.
بفضل سلسلتي الجبال الحاضنتين لسهل الخير في البقاع، تتفجر الينابيع والعيون في مواقع عدة مشكّلة جداول صغيرة حتى إذا ما تلاقى بعضها تدفق الليطاني نهراً يحفر مجراه انطلاقاً من بعض العيون، أشهرها نبع «العليق» بالقرب من إيعات غير البعيدة عن بعلبك، وحتى مصبه، محتضناً عدداً من الأنهار الصغيرة عبر طريقه الطويلة قبل أن يهدأ ليجمع أرباح رحلته في بحيرة القرعون في البقاع الغربي، حيث أقيم سد لتخزين المياه حتى يفيد منها الزرّاع والفلاحون ولا تضيع هدراً، وبعده تتوافر الفرصة لتوليد بعض الطاقة الكهربائية في محطة توليد صغيرة في مركبا. وفي القاسمية جنوباً، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، غير بعيد عن صور تنتهي رحلة الليطاني بعد أن يملأ شواطئ مجراه بالبساتين والحدائق والحرس الأخضر من أشجار البطم والصفصاف العالية.
عند أقدام سلسلة جبال لبنان الشرقية، غير بعيد عن مجرى الليطاني وبحيرة القرعون، وفي مدينة عنجر على وجه التحديد، كان الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قد ابتنى قصراً صيفياً تحيطه حدائق غنّاء تمتد بامتداد السهل إلى فلسطين، وهو السهل الذي ذكره الشاعر الكبير سعيد عقل وقال عنه «بستان هشام».
بالمقابل فإن نهراً أغزر تدفقاً هو العاصي يتفجر من مغارة الراهب، قرب مدينة الهرمل، وهي المغارة التي يروى أن الناسك مارون الذي صار قديساً ثم حمل اسمه أحد المذاهب في الدين المسيحي (الموارنة) قد لجأ إليها هرباً من اضطهاد المتشددين اليعاقبة ممن اتهموه بالزندقة.
غير بعيد عن منبع النهر الذي يتميز بأنه، يجري خلاف المقدّر والمتصوّر، ومن هنا تسميته «العاصي» وعند مدخل الهرمل، يقوم «حارس» ثابت هو «القاموع» الروماني، وغير بعيد عنه دير مار مارون، وقصر البنات بالقرب من «العاصي» الذي اختار لنفسه مجراه الاستثنائي.
فهذا النهر الذي يقصد الشمال بامتداد السهول السورية ليصب في البحر الأبيض المتوسط عند شاطئ إسكندرون، قد وفر الفرصة للملكة العظيمة زنوبيا، لكي تمد قناة منه إلى مركز حكمها في تدمر في قلب البادية.
وفي بعض ضواحي الهرمل، ومن محطة وادي الجوز تحديداً اتخذ الأديب العظيم جبران خليل جبران مسرحاً لأحداث قصته الأخيرة «إرم ذات العماد».
الجمال يستولد الشعر... وربما لهذا جاء العديد من شعراء لبنان والأدباء وأهل القلم عموماً من البقاع، بشماله وشرقه وغربه... من الهرمل إلى بعلبك، ومن زحلة إلى مشغرة ومن القرعون وجب جنين إلى حيث مهبط الإلهام في وادي التيم جسر التلاقي مع جبل عامل.
وتحتفظ الذاكرة الشعبية بأسماء شعراء كبار يتصدّرهم المعالفة، أي أبناء عائلة المعلوف، وأبرزهم شوقي وفوزي المعلوف، وشاعر القطرين، لبنان ومصر، خليل مطران، والحيادرة الذين برز منهم سليم وجودت حيدر، قبل أن يطل سعيد عقل بقصائده التي تداني المعلقات، ومن البقاع لمع «قمر مشغرة» زكي ناصيف كمؤسس مجدد في الغناء الشعبي خاصة والفولكلور عموماً، وأسعد أبو حربه الذي وصفه المبدع عاصي الرحباني بأنه صاحب أرشق قدم في لبنان وأبهى من رقص الدبكة.
كذلك فإن الذاكرة الشعبية تحتفظ بأسماء العديد من أهل القلم صحافيين (رياض طه) وروائيين ومبدعين بينهم رسامون كبار (رفيق شرف) ونحاتون (آل الرفاعي) فضلاً عن الذين حفظوا للفنون الشعبية أصالتها (في الدبكة آل الصلح الذين أخذ عنهم آل كركلا وفهد العبد الله) ومعهم الذين أضافوا إلى فنون الموسيقى والغناء الشعبي (وبينهم علي حليحل وعاصي الحلاني ومعين شريف إلخ)..
وقد وفر البقاع، بموروثه الثقافي وتقاليد أهله متعددي المنابت والأصول، المناخ الملائم لإحياء التراث الفولكلوري، رقصاً وغناءً، دبكة وحداءً، وقصصاً تخالطها الأساطير... وبهذا لم تكن بعلبك المسرح فقط، بل هي حاضنة المهرجانات التي تعرف باسمها والتي تشكل فرصة سنوية لأن يتعرف الجمهور اللبناني إلى باقة من النتاج العالمي المميز في مجالات الغناء والرقص والموسيقى، وهي تقدم في إطار أسطوري الجمال من إبداعات الزمن القديم التي قاومت أعاصير الطبيعة وتعاقب الحملات والغزوات ومطاردات الإمبراطوريات بعضها بعضاً حتى اندثرت تاركة منها ما يستحق البقاء من فنون العمران والتراث الموسيقي غناءً ورقصاً وتمثيلاً.
إن البقاع يكاد يكون خشبة مسرح أسطوري تجللها سلسلتا جبال، وتغمرها في الليالي القمرية أطياف العشاق وقد تحايلوا على التلاقي بعدما فرغوا من الحصاد، وانصرفوا إلى بث نجواهم في ألوان من الغناء الشجي، تختلط فيه فنون العتابا والشروقي وقصائد الغزل الرقيق يروون فيها شجنهم بصحبة العتب، حتى إذا هزّهم الفرح اندفعوا إلى الحلبة لتأكيد الرجولة وبث الفخر في صدور الحبيبات اللواتي يتشوقن إلى اللقاء وإلى التعبير عن مخزون القلب عبر حلقة الدبكة التي تجمع العشاق من فوق رأس الرقيب.
البقاع، سهل الخير الذي حفظ أهله الكثير من تقاليد الأجداد وقد كان من بينهم الفرسان والفلاحون، الحكام والعصاة، الشعراء والكتّاب، المطربون والمتميزون في أداء الدبكة التي تعتبر بمثابة بطاقة هوية لهؤلاء الذين عمروا وارتقوا الجبال، والذين يرون في سهلهم الممتد بين سلسلتي جبال أرجوحة للقمر، ينثر من فوقها فضته ليغذي قصص الحب وزخم الزنود وإيمان الصدور ببقاعهم الذي ينبت مع الرجال الشعر والفن وعشق الجمال.
وبعلبك مهرجان دائم للفنون والإبداع من قبل أن تتخذها النخبة قلعة مفتوحة لمهرجانات الفرح الصيفية.
(تلبية لطلب من لجنة مهرجانات بعلبك)

ليست هناك تعليقات:

شهداء المقاومة..منارات الهرمل


من صور الأصدقاء: جرود الهرمل

جارة العاصي ترحب بكم ضيوفاً.. على الخير دائماً

مسجد الوقف.. الحنين الى الأيام الأولى