ابراهيم شرارة
كنّا نعرف أنهم رتبوا كل شيء للرحلة. علينا فقط أن نُحضر بضعة أغراض شخصية. من بينها، لباس شتوي، وفي الوقت نفسه، قبّعة، تحمينا من الشمس. لكن بعضنا لم يكترث كثيراً لهذا التحذير المرفق بالدعوة الموجهة إلى مجموعة من الصحافيين، والتي نقلها لنا الزميل وفيق قانصوه، لزيارة «مشروع الجورد للسياحة البيئية». انشغلنا أكثر بكيف نرتب أشياءنا التي سنتركها خلفنا، في بيروت، بينما نغيب عن «السمع» لثلاثة أيام. التقينا في الموعد المحدد، من بعد ظهر الجمعة الفائت. كنا أمام خيارين: إمّا طريق طرابلس، ومن ثم إلى الضنية وعكار فالجرد، أو طريق البقاع ومن ثم إلى الهرمل ثم الجرد. نختار الطريق الأول. هكذا يمكن لنا أن نتعرف أيضاً على قرى تلك الأقضية المنسية. بعد مضي نحو ثلاث ساعات، تلوح في سفح منخفض خيم بعيدة، وطريق ترابي يصل إلى ما سندعوه منذ الآن بـ«الجورد». والواو في الاسم مقصودة، وإن كانت تخالف قواعد اللغة، لكنها من اللهجة المحببة لأهل هذه الأرض الواقعة في مثلث الهرمل، عكار، والضنية. [[[ نصل «الجورد» قبل المساء. ما زال أمامنا متسع من الوقت لجولة تعريفية صغيرة، يرشدنا فيها مضيفنا مدير المشروع حسين علوه. هنا خيمة الضيافة، وبالقرب منها خيمة المطعم. وبعيداً عنهما غرف حجرية صغيرة، مكشوفة من الأعلى. هكذا يمكن لمن يرغب أن يغتسل ويتفرج على النجوم في الوقت نفسه. في السفح المقابل، طرقات ترابية نمشيها لنصل إلى الأمكنة التي اخترناها للإقامة. خيم مستوحاة من الهندسة المحلية ومصنوعة من المواد المستمدة من المحيط. سنعرف لاحقاً أن هذه الخيم التي بتنا فيها ليلتين احتاجت إلى أسبوعين من العمل الشاق لنصبها، قبل أن ترميها عاصفة ثلجية غير متوقعة. أسبوعان آخران وصار المشروع جاهزا لاستقبال ضيوفه. كل هذا العمل، وغيره الكثير، هو جهد فردي، يقوم به فريق صغير من أصدقاء علوه وأقاربه، وصلة القرابى معدية في هذا الجوار، تضم الضيوف في كنفها، حيث للطف الناس هنا صدقه الخالص. الشعور نفسه ينطبق على من سنلتقي بهم لاحقاًُ في المشروع. هؤلاء جاؤوا من بيروت وغيرها من المناطق. بينهم طلاب ومحامون ومهندسون.. بضع كلمات من باب التعارف والتعريف، تليها «سهرة نار» تجمع من كانوا منذ لحظات مجرد أشخاص التقوا صدفة. في ساحة «النار» التي تتسع لعشرات الأشخاص نقضي الوقت بين اللعب والحديث والغناء حتى ما بعد منتصف الليل. تنتهي السهرة، رغماً عنّا، لأن يوماً ثانياً طويلا ينتظر.. [[[ كنّا نخشى الموعد الصارم للاستيقاظ: الثامنة صباحاً. لكن منسّق الرحلة، اللقب الذي أطلقناه على الزميل قانصوه، تساهل في الموعد، بالتواطؤ مع حسين علوه. ساعة إضافية من النوم نسرقها قبل أن يحين موعد «الترويقة» البيئية. وهذه يسبقها، طبعاً، فنجان قهوة. وللقهوة مذاقها الذي يختلف في برودة هذا الصباح الذي يرتفع 2200 متر عن رطوبة المدينة، وعوادم سياراتها. نستغل جلسة «الترويقة» لنسأل حسين علوه عن مشروعه الذي يبلغ 7 سنوات من العمر. يروي لنا الرجل، بسعادة بالغة، كيف بنى حجارته وجهّزه، سنة بعد سنة، إلى أن صار يتسع الآن لـ50 شخصاً دفعة واحدة. يروي ذلك من دون أن ينسى ذكر أسماء من تعاونوا معه في العمل. لكن مثل هذا العمل لم يعطِ حتى الآن مردودا يكفل استمراره. ففي العام الماضي مثلاً، زار المشروع 350 شخصاً فقط من أصل 4500 هي قدرة استيعاب المخيم في الموسم. والموسم، في لغة أصحاب المشروع، يقتصر على ثلاثة أشهر فقط، تمتد بين حزيران، تموز، آب وأيلول. هذا الوضع يهدد باستمرار المشروع، يقول حسين. «نستطيع أن نصمد بعد لسنتين. بعدها لن نكون قادرين على تغطية التكاليف التي ندفعها حاليا من جيوبنا. فالمردود لا يغطي إلا نسبة ضئيلة جدا من الكلفة». والسبب؟ «نحتاج إلى دعم من وزارة السياحة وغيرها من الوزارات. كثيرون لا يعرفون بالمشروع. ومن يعرف به يمتنع عن زيارته، نظرا للصورة السلبية، غير الحقيقية، عن المنطقة. هذا عدا عن الإهمال الذي تعانيه مثل هذه المشاريع السياحية والبيئية». و«البيئية» هنا تعني الالتزام بمعايير صارمة. بدءاً من الطاقة الشمسية، مروراً إلى مياه الصرف الصحي التي تكرر على مراحل، إلى أن تصير صالحة للري. وصولاً إلى سلال النفايات عند الطرقات الموصلة بين الخيم، وإلى جانبها.. «منافض». تفصيل صغير كهذا لن تشعر بجدّيته إلاّ حين ترى حسين علوه ينحني من حين لآخر ليلتقط عقب سيجارة وجده مرمياً على الأرض. يمرّ الوقت ولا ينتهي الحديث. كنّا لا نزال عند الظهر تقريباً. وفي البرنامج «مارش» يفترض ألا تتجاوز مدته ساعة واحدة. مدة اخترناها نحن، بعد أن تهيّبنا كل هذه الصخور التي علينا أن نتسلقها. لكن «المسير» الذي أردنا أن يكون مختصراً، امتد لنحو ثلاث ساعات كاملة. كنّا نمشي ولا نكتفي من المشي. نلاحق أشجار اللزاب النابتة فوق الصخور. نرى واحدة بعيدة فنقصدها. ونشاهد أخرى على صخرة مرتفعة فنصعد إليها. وكل واحدة منها تختلف عن الأخرى. وهكذا، حتى وصلنا أعلى تلّة صغيرة مشرفة على وادٍ سحيق. من هنا، كان يمكن لأي منّا أن يقفز في بحر الغيم الملتف حول التلال في الأسفل. أن يقف على أرض من الغيم تحت قدميه. [[[ نعود إلى المخيم، وفي اعتقادنا أننا مشينا كما لم يمش أحد من قبلنا. لكننا سنعرف لاحقاً أن في البرنامج الذي يقدمه المشروع لضيوفه خيار المسير إلى قمة «القرنة السوداء»، على ارتفاع 3089 متراً. أو ربما إلى قمة «الرجال العشرة»، على ارتفاع أقل. وعن هذه القمة يحكى أن رجالاً اختبأوا في الجبل محاربين الفرنسيين. وذات يوم، حاصرهم الثلج عند تلك القمة، وماتوا. يحكى أن ليس البرد هو الذي قتلهم، بل قتلهم صوت الريح. [[[ نستيقظ في اليوم الثالث من الرحلة متأخرين، بعد تعب المسير. غير أن برنامج اليوم يغري بالاستعجال، قبل أن نسمع نداء «الترويقة». في اللقاء الأخير مع فريق المشروع نشعر كأننا نودع أصدقاء نعرفهم. ولوداع المشروع أيضا إحساس يشبه الخسارة. نترك ذكريات كثيرة بنيناها في ساعات قليلة. نترك «الجورد» وننطلق إلى الهرمل. على جدول اليوم جولة في «الرافت»، أو القارب المطاطي العائم، في نهر العاصي، تلبية لدعوة من نادي «أكوا عاصي». كنا التقينا في اليوم السابق، في «الجورد»، بنور الدين المقهور، الذي يتولى إدارة النادي مع زميله محمد علي العميري. يعدنا نور حينها بتجربة لا تنسى. لم يكن نهر العاصي غريباً عن معظمنا. لكن أن تعبر النهر، لمسافة 7 كيلومترات ونصف، في «الرافت»، أمر مختلف تماماً. نستعد للتجربة، بخوف يرتفع منسوبه شيئاً فشيئاً مع سماعنا لتعليمات السلامة الصارمة التي كان يتلوها علينا «المونيتور» نور. علينا أن نحفظ جيداً تلك التعليمات، لا سيما أنها تأتي من شاب يمتلك خبرة سنوات مضت. بدأت رحلة نور ومحمد علي مع رياضة «الرافت» و«الكاياك» منذ 10 سنوات تقريباً. حينها، تعرف الشابان الصغيران على علي عواضة، الرجل الذي جلب الرياضة إلى لبنان، بعد خبرة 18 سنة أمضاها في فرنسا. وهكذا، تدرج الشابان من الهواية إلى إدارة النادي، تحت إشراف «أستاذنا» عواضة، كما يحرص نور على تسميته. لاحقاً استقل الشابان بإدارة النادي، بعدما أضافت مشاركاتهم الدولية، ومنها مرتان في بطولة العالم، خبرة تؤهلهما لنقل النادي إلى مرحلة متقدمة من الاحتراف. المشروع الذي بدأ بجهود عواضه استكمله الشابان بجهودهما الخاصة. اليوم، يشغّل النادي ما بين 7 إلى 8 «رافتات»، استقدمت جميعها من فرنسا، بسعر يبلغ أكثر من خمسة آلاف يورو لكل واحد منها. عدد كهذا من القوارب يسمح بإنزال ما بين 150 إلى 200 شخص كل يومي سبت وأحد، خلال الموسم الممتد من حزيران إلى أواخر أيلول. يقطع حديث نور موعد النزول إلى النهر. نختار قارباً يتسع لستة أشخاص، بالإضافة إلى نور. وتبدأ التجربة التي ستستمر ساعتين ونصف ساعة. نجتاز خلالها حواجز طبيعية عدة، قبل أن نصل إلى شلال صغير، يحتاج إلى إجراءات خاصة لعبوره. وفي فسحة هادئة من النهر، نكمن لقارب آخر، يلحق بنا. نهاجمه بالمياه. لاحقاً ستتكرر الهجمات والهجمات المضادة، إلى أن نصل الشلال الأخير. نجتازه أيضاً بانتباه كبير. ثم تنتهي الرحلة مع بعض الألعاب المائية. نخرج من القارب، وفي بالنا أمنية واحدة، أن نكرر الجولة مباشرة، برغم التعب الذي تركه التجذيف مع وضد النهر الجارف، في سواعدنا. كان موعد الزيارة قد شارف على الانتهاء. في الدقائق الأخيرة يحكي لنا نور عن طموح النادي باستضافة بطولة العالم للـ«كاياك» في نهر العاصي، والتي تشارك فيها 41 دولة. طموح تسمح به الإمكانات التقنية، لكنه يحتاج إلى جهد من الوزارات المعنية. وهو جهد لا يبدو أن أحدا يعنى به. يقترب موعد وصول الباص الذي سيقلّنا إلى بيروت. لكن نور يرفض بشكل قاطع أن نترك المقهى من دون غداء متأخر، أعدّه محمد علي من سمك النهر. نوافق، قبل أن يحين موعد المغادرة أول المساء. نختار طريق البقاع - ضهر البيدر للعودة. نترك النهر الجميل خلفنا. نترك الهرمل، وعالم من نوع الحلم يغمرنا. كنا نتوجه إلى بيروت، عائدين لتوّنا من بحر الغيم.
كنّا نعرف أنهم رتبوا كل شيء للرحلة. علينا فقط أن نُحضر بضعة أغراض شخصية. من بينها، لباس شتوي، وفي الوقت نفسه، قبّعة، تحمينا من الشمس. لكن بعضنا لم يكترث كثيراً لهذا التحذير المرفق بالدعوة الموجهة إلى مجموعة من الصحافيين، والتي نقلها لنا الزميل وفيق قانصوه، لزيارة «مشروع الجورد للسياحة البيئية». انشغلنا أكثر بكيف نرتب أشياءنا التي سنتركها خلفنا، في بيروت، بينما نغيب عن «السمع» لثلاثة أيام. التقينا في الموعد المحدد، من بعد ظهر الجمعة الفائت. كنا أمام خيارين: إمّا طريق طرابلس، ومن ثم إلى الضنية وعكار فالجرد، أو طريق البقاع ومن ثم إلى الهرمل ثم الجرد. نختار الطريق الأول. هكذا يمكن لنا أن نتعرف أيضاً على قرى تلك الأقضية المنسية. بعد مضي نحو ثلاث ساعات، تلوح في سفح منخفض خيم بعيدة، وطريق ترابي يصل إلى ما سندعوه منذ الآن بـ«الجورد». والواو في الاسم مقصودة، وإن كانت تخالف قواعد اللغة، لكنها من اللهجة المحببة لأهل هذه الأرض الواقعة في مثلث الهرمل، عكار، والضنية. [[[ نصل «الجورد» قبل المساء. ما زال أمامنا متسع من الوقت لجولة تعريفية صغيرة، يرشدنا فيها مضيفنا مدير المشروع حسين علوه. هنا خيمة الضيافة، وبالقرب منها خيمة المطعم. وبعيداً عنهما غرف حجرية صغيرة، مكشوفة من الأعلى. هكذا يمكن لمن يرغب أن يغتسل ويتفرج على النجوم في الوقت نفسه. في السفح المقابل، طرقات ترابية نمشيها لنصل إلى الأمكنة التي اخترناها للإقامة. خيم مستوحاة من الهندسة المحلية ومصنوعة من المواد المستمدة من المحيط. سنعرف لاحقاً أن هذه الخيم التي بتنا فيها ليلتين احتاجت إلى أسبوعين من العمل الشاق لنصبها، قبل أن ترميها عاصفة ثلجية غير متوقعة. أسبوعان آخران وصار المشروع جاهزا لاستقبال ضيوفه. كل هذا العمل، وغيره الكثير، هو جهد فردي، يقوم به فريق صغير من أصدقاء علوه وأقاربه، وصلة القرابى معدية في هذا الجوار، تضم الضيوف في كنفها، حيث للطف الناس هنا صدقه الخالص. الشعور نفسه ينطبق على من سنلتقي بهم لاحقاًُ في المشروع. هؤلاء جاؤوا من بيروت وغيرها من المناطق. بينهم طلاب ومحامون ومهندسون.. بضع كلمات من باب التعارف والتعريف، تليها «سهرة نار» تجمع من كانوا منذ لحظات مجرد أشخاص التقوا صدفة. في ساحة «النار» التي تتسع لعشرات الأشخاص نقضي الوقت بين اللعب والحديث والغناء حتى ما بعد منتصف الليل. تنتهي السهرة، رغماً عنّا، لأن يوماً ثانياً طويلا ينتظر.. [[[ كنّا نخشى الموعد الصارم للاستيقاظ: الثامنة صباحاً. لكن منسّق الرحلة، اللقب الذي أطلقناه على الزميل قانصوه، تساهل في الموعد، بالتواطؤ مع حسين علوه. ساعة إضافية من النوم نسرقها قبل أن يحين موعد «الترويقة» البيئية. وهذه يسبقها، طبعاً، فنجان قهوة. وللقهوة مذاقها الذي يختلف في برودة هذا الصباح الذي يرتفع 2200 متر عن رطوبة المدينة، وعوادم سياراتها. نستغل جلسة «الترويقة» لنسأل حسين علوه عن مشروعه الذي يبلغ 7 سنوات من العمر. يروي لنا الرجل، بسعادة بالغة، كيف بنى حجارته وجهّزه، سنة بعد سنة، إلى أن صار يتسع الآن لـ50 شخصاً دفعة واحدة. يروي ذلك من دون أن ينسى ذكر أسماء من تعاونوا معه في العمل. لكن مثل هذا العمل لم يعطِ حتى الآن مردودا يكفل استمراره. ففي العام الماضي مثلاً، زار المشروع 350 شخصاً فقط من أصل 4500 هي قدرة استيعاب المخيم في الموسم. والموسم، في لغة أصحاب المشروع، يقتصر على ثلاثة أشهر فقط، تمتد بين حزيران، تموز، آب وأيلول. هذا الوضع يهدد باستمرار المشروع، يقول حسين. «نستطيع أن نصمد بعد لسنتين. بعدها لن نكون قادرين على تغطية التكاليف التي ندفعها حاليا من جيوبنا. فالمردود لا يغطي إلا نسبة ضئيلة جدا من الكلفة». والسبب؟ «نحتاج إلى دعم من وزارة السياحة وغيرها من الوزارات. كثيرون لا يعرفون بالمشروع. ومن يعرف به يمتنع عن زيارته، نظرا للصورة السلبية، غير الحقيقية، عن المنطقة. هذا عدا عن الإهمال الذي تعانيه مثل هذه المشاريع السياحية والبيئية». و«البيئية» هنا تعني الالتزام بمعايير صارمة. بدءاً من الطاقة الشمسية، مروراً إلى مياه الصرف الصحي التي تكرر على مراحل، إلى أن تصير صالحة للري. وصولاً إلى سلال النفايات عند الطرقات الموصلة بين الخيم، وإلى جانبها.. «منافض». تفصيل صغير كهذا لن تشعر بجدّيته إلاّ حين ترى حسين علوه ينحني من حين لآخر ليلتقط عقب سيجارة وجده مرمياً على الأرض. يمرّ الوقت ولا ينتهي الحديث. كنّا لا نزال عند الظهر تقريباً. وفي البرنامج «مارش» يفترض ألا تتجاوز مدته ساعة واحدة. مدة اخترناها نحن، بعد أن تهيّبنا كل هذه الصخور التي علينا أن نتسلقها. لكن «المسير» الذي أردنا أن يكون مختصراً، امتد لنحو ثلاث ساعات كاملة. كنّا نمشي ولا نكتفي من المشي. نلاحق أشجار اللزاب النابتة فوق الصخور. نرى واحدة بعيدة فنقصدها. ونشاهد أخرى على صخرة مرتفعة فنصعد إليها. وكل واحدة منها تختلف عن الأخرى. وهكذا، حتى وصلنا أعلى تلّة صغيرة مشرفة على وادٍ سحيق. من هنا، كان يمكن لأي منّا أن يقفز في بحر الغيم الملتف حول التلال في الأسفل. أن يقف على أرض من الغيم تحت قدميه. [[[ نعود إلى المخيم، وفي اعتقادنا أننا مشينا كما لم يمش أحد من قبلنا. لكننا سنعرف لاحقاً أن في البرنامج الذي يقدمه المشروع لضيوفه خيار المسير إلى قمة «القرنة السوداء»، على ارتفاع 3089 متراً. أو ربما إلى قمة «الرجال العشرة»، على ارتفاع أقل. وعن هذه القمة يحكى أن رجالاً اختبأوا في الجبل محاربين الفرنسيين. وذات يوم، حاصرهم الثلج عند تلك القمة، وماتوا. يحكى أن ليس البرد هو الذي قتلهم، بل قتلهم صوت الريح. [[[ نستيقظ في اليوم الثالث من الرحلة متأخرين، بعد تعب المسير. غير أن برنامج اليوم يغري بالاستعجال، قبل أن نسمع نداء «الترويقة». في اللقاء الأخير مع فريق المشروع نشعر كأننا نودع أصدقاء نعرفهم. ولوداع المشروع أيضا إحساس يشبه الخسارة. نترك ذكريات كثيرة بنيناها في ساعات قليلة. نترك «الجورد» وننطلق إلى الهرمل. على جدول اليوم جولة في «الرافت»، أو القارب المطاطي العائم، في نهر العاصي، تلبية لدعوة من نادي «أكوا عاصي». كنا التقينا في اليوم السابق، في «الجورد»، بنور الدين المقهور، الذي يتولى إدارة النادي مع زميله محمد علي العميري. يعدنا نور حينها بتجربة لا تنسى. لم يكن نهر العاصي غريباً عن معظمنا. لكن أن تعبر النهر، لمسافة 7 كيلومترات ونصف، في «الرافت»، أمر مختلف تماماً. نستعد للتجربة، بخوف يرتفع منسوبه شيئاً فشيئاً مع سماعنا لتعليمات السلامة الصارمة التي كان يتلوها علينا «المونيتور» نور. علينا أن نحفظ جيداً تلك التعليمات، لا سيما أنها تأتي من شاب يمتلك خبرة سنوات مضت. بدأت رحلة نور ومحمد علي مع رياضة «الرافت» و«الكاياك» منذ 10 سنوات تقريباً. حينها، تعرف الشابان الصغيران على علي عواضة، الرجل الذي جلب الرياضة إلى لبنان، بعد خبرة 18 سنة أمضاها في فرنسا. وهكذا، تدرج الشابان من الهواية إلى إدارة النادي، تحت إشراف «أستاذنا» عواضة، كما يحرص نور على تسميته. لاحقاً استقل الشابان بإدارة النادي، بعدما أضافت مشاركاتهم الدولية، ومنها مرتان في بطولة العالم، خبرة تؤهلهما لنقل النادي إلى مرحلة متقدمة من الاحتراف. المشروع الذي بدأ بجهود عواضه استكمله الشابان بجهودهما الخاصة. اليوم، يشغّل النادي ما بين 7 إلى 8 «رافتات»، استقدمت جميعها من فرنسا، بسعر يبلغ أكثر من خمسة آلاف يورو لكل واحد منها. عدد كهذا من القوارب يسمح بإنزال ما بين 150 إلى 200 شخص كل يومي سبت وأحد، خلال الموسم الممتد من حزيران إلى أواخر أيلول. يقطع حديث نور موعد النزول إلى النهر. نختار قارباً يتسع لستة أشخاص، بالإضافة إلى نور. وتبدأ التجربة التي ستستمر ساعتين ونصف ساعة. نجتاز خلالها حواجز طبيعية عدة، قبل أن نصل إلى شلال صغير، يحتاج إلى إجراءات خاصة لعبوره. وفي فسحة هادئة من النهر، نكمن لقارب آخر، يلحق بنا. نهاجمه بالمياه. لاحقاً ستتكرر الهجمات والهجمات المضادة، إلى أن نصل الشلال الأخير. نجتازه أيضاً بانتباه كبير. ثم تنتهي الرحلة مع بعض الألعاب المائية. نخرج من القارب، وفي بالنا أمنية واحدة، أن نكرر الجولة مباشرة، برغم التعب الذي تركه التجذيف مع وضد النهر الجارف، في سواعدنا. كان موعد الزيارة قد شارف على الانتهاء. في الدقائق الأخيرة يحكي لنا نور عن طموح النادي باستضافة بطولة العالم للـ«كاياك» في نهر العاصي، والتي تشارك فيها 41 دولة. طموح تسمح به الإمكانات التقنية، لكنه يحتاج إلى جهد من الوزارات المعنية. وهو جهد لا يبدو أن أحدا يعنى به. يقترب موعد وصول الباص الذي سيقلّنا إلى بيروت. لكن نور يرفض بشكل قاطع أن نترك المقهى من دون غداء متأخر، أعدّه محمد علي من سمك النهر. نوافق، قبل أن يحين موعد المغادرة أول المساء. نختار طريق البقاع - ضهر البيدر للعودة. نترك النهر الجميل خلفنا. نترك الهرمل، وعالم من نوع الحلم يغمرنا. كنا نتوجه إلى بيروت، عائدين لتوّنا من بحر الغيم.
جريدة السفير 9/7/2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق