ركان الفقيه
تحولت الرصاصات الثلاث التي أصابت الصبية حنان هاشم أثناء عبورها الشارع الرئيسي لمدينة الهرمل، صاعقا فجّر موجة كبيرة من الغضب والإدانة التي اجتاحت المجتمع المحلي «الهرملي». وشكلت وفاة حنان الحدث المأساوي الذي انتهت اليه ظاهرة «التشبيح» و«التشفيط» التي يعتمدها عدد من الشبان الذين لجأوا منذ مدة غير قصيرة الى ترويع المواطنين وأصحاب المحال التجارية، متسلحين بانتماءاتهم العشائرية أو العائلية أو الحزبية. واذا كانت المطاردات المتواصلة بين هؤلاء الشبان، أدت الى مقتل ابنة الستة عشر ربيعاً لحظة خروجها من احدى الصيدليات وفي يدها دواء والدتها المريضة، فإن شوارع وأحياء مدينة الهرمل تشهد منذ مدة طويلة العديد من «المناورات» بالذخيرة الحية بين افراد تلك المجموعات. قد يعتمد المتواجهون، وفي معظم الأحيان، إن لم نقل كلها، على أسلحة أخرى كالعصي والحجارة خلال سعيهم الى فرض نفوذهم وسيطرتهم، بعد الضمور الواضح لدور القوى الأمنية الشرعية الموجودة في المنطقة، لأسباب يحتار المواطنون في تبريرها: هل هناك تدن كبير في عديد هذه القوى أم أن القرار بملاحقة ومحاسبة العابثين بأمن وحياة المواطنين الأبرياء مغيب، بل في الكثير من الاحيان لجوء هذه القوى الى تجميد اجراءات ملاحقة المطلوبين ريثما يتم ايجاد حل «حبي» لاعتداء قام به أحدهم.
ينطق لسان حال الجميع من ابناء منطقة الهرمل بكلمة واحدة «كفى» عبثا بأمن المواطنين وحياتهم ومصالحهم وعلى الذين يريدون تصفية الحسابات ضد بعضهم بعضا ان يذهبوا بعيدا عن الشوارع والطرق والاحياء التي تكتظ بالمارة والعابرين إلى خبز يومهم. إنها العبارة التي يستهل بها مختار مدينة الهرمل فيصل فخر الدين حديثه والذي يتبعه بسؤال ينضح حزنا ومرارة: «هل بات الحرمان من الاستقرار الامني شكلا جديدا للحرمان الذي تعيشه المنطقة على الصعد الاقتصادية والحياتية كلها منذ زمن طويل؟ لقد بات العديد من أحياء مدينة الهرمل مسرحا شبه يومي للعراك والعنف الذي تلجأ اليه مجموعات من الشباب تحت عناوين وذرائع مختلفة». ويستغرب المختار فخر الدين استهتار هؤلاء بأرواح المواطنين الابرياء، الذي كانت ضحيته الاخيرة فتاة بعمر الورود، ذنبها الوحيدة أنها أرادت أن تقطع الشارع بعد شراء الدواء لوالدتها المريضة، حيث أصبحت أية فتاة أو أي طفل أو مواطن عرضة للمصير نفسه وفي كل لحظة.
ويبدي أصحاب المحال التجارية في السوق الرئيسية لمدينة الهرمل استياءهم الكبير مما يحصل، وقد أدت «المعارك» التي يخوضها بعض الشبان، ناهيك عن قيادتهم السيارات بطريقة جنونية الى تراجع كبير في حركة المبيعات كما يؤكد حسن عابدين، صاحب مؤسسة تجارية، جراء القلق الذي يسود لدى المواطنين وترددهم في القدوم الى منطقة «سوق الضيعة» التي تعتبر من اكثر المناطق في المدينة أهمية على مستوى الحركة الاقتصادية.
ويتساءل عبد الغني قانصوة، صاحب مطعم: «هل بتنا نخضع لشريعة الغاب بالرغم من أننا أناس مسالمون، نقوم بواجبنا كاملا تجاه الدولة؟ ففي الوقت الذي نؤدي ما هو مطلوب منا وبكل طيبة خاطر من ضرائب والتزامات»؟ ويشير قانصوه الى وجود علامات استفهام كبيرة حول دور القوى الامنية المولجة حماية المواطنين في المنطقة، حيث تبدو هذه القوى محكومة بمراعاة الازلام والمحاسيب والخضوع للتدخلات من هنا وهناك بما يحول دون محاسبة أو اعتقال الاشخاص الذين يعتدون على المواطنين الآمنين الساعين وراء لقمة عيشهم. ويستغرب قانصوه ما يحصل، حيث إن جميع أبناء المنطقة ينتمون الى النسيج الاجتماعي نفسه، مطالباً بأن يتولى الجيش مسؤولية الامن في المنطقة رافضا وجود دولة ضمن الدولة.
ويعيد علي محفوظ، صاحب سوبر ماركت في سوق الضيعة، ما يحصل إلى البطالة المستشرية في منطقة تعيش الحرمان المضاعف، الامر الذي يؤدي الى الانحراف ويدفع بالكثير من الشبان العاطلين من العمل الى تشكيل عصابات على أساس الاحياء التي يسكنونها، وتبني المفاهيم المتخلفة. ويرى محفوظ أن غياب الدولة يساعد على تفاقم التجاوزات، وقد وصل الامر ببعض الناس الى حد مغادرة المنطقة جراء الاعتداءات التي يتعرضون لها، علما بأن هذه الظاهرة وصلت الى حد يهدد بخروجها عن أي ضوابط بسبب غياب المرجعيات المؤثرة على مستوى العائلات من جهة، والتصرف المتهورللمجموعات التي تعبث بأمن المواطنين وتلجأ الى التخريب على هواها دون حسيب أو رقيب من جهة اخرى.
ويعتبر حسين الساحلي، وهو مدير مدرسة وناشط اجتماعي، أن ما يجري خطير جدا، وهو ناجم عن تراجع في القيم والثقافة. ويقول الساحلي «بتنا بحاجة إلى صدمة كبيرة ومؤثرة على مستوى الثقافة العامة في المنطقة وبما يتناسب مع التغيرات الاجتماعية التي شهدتها، وهو أمر أصبح مهمة ملقاة على عاتق النخبة من أبنائها في ظل تراجع دور الاحزاب واقتصاره على مصالح معينة، تلبس كل مرة وجها مختلفا». ويطرح الساحلي العديد من علامات الاستفهام التي تتناول أسباب غياب الدولة كممثلة وحامية للصالح العام، والذي يترجم أولا وأخيرا بغياب مؤسساتها المتنوعة، وبالتالي دفع الناس الى توفير أمنهم الذاتي بأيديهم. ويجزم الساحلي بأن أبناء المنطقة يريدون الدولة العادلة التي تحميهم وتجلعهم يشعرون بالامان، كما يطالب القوى السياسية مجتمعة بأن تجد حلا سريعا لهذه المعضلة، وبأن تكون علاقتها بأهالي الهرمل خارج المصالح الآنية والضيقة، وهم الذين أعطوها الشهداء في العمل المقاوم والاصوات في الانتخابات النيابية. ويدعو الساحلي إلى تشكيل أطار يجمع الحريصين من أبناء المنطقة في نواة تضم نخبة أبنائها على مختلف شرائحهم واختصاصاتهم، للعمل على دق ابواب جميع رموز الدولة وبشكل دؤوب الى أن يتم معالجة التدهور الامني الخطير الذي تعيشه المنطقة، ناهيك عن جذور الحرمان الاقتصادي والحياتي والخدماتي منذ عقود طويلة.
ويستنكر عضو مجلس بلدية الهرمل مفلح علوه وأحد زعماء عشيرته مقتل الفتاة هاشم ويطالب الجهات الامنية والقضائية انزال أشد العقوبات بالذين ارتكبوا هذه الجريمة الناجمة عن الطيش والتهور. ويؤكد علوه أن آل علوه «هم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الهرملي، وهم لن يكونوا إلا سببا في دفعه نحو الوحدة والتقدم وتجاوز السلبيات التي يعانيها، مشيراً بأسف إلى أن عشيرة آل علوه سعت الى المشاركة في تشييع الفقيدة وتقديم التعازي لذويها لكنهم رفضوا ذلك، «كما بذل آل علوه جهدا كبيرا من أجل تسليم احد المتهمين الى العدالة، لكن ذويه فشلوا بذلك». ويرفض علوه أي صيغ لممارسة الامن الذاتي ويطالب القوى الامنية والقضاء ملاحقة اي قاتل وتخليص المجتمع من شروره، ويدعو الى التخلي عن أساليب المصالحات التي تنتهي بتبويس اللحى وإسقاط التهمة عن الجاني أو مساعدة القاتل من خلال جمع الاموال التي تدفع كـ«دية» لأهل الضحية. ويعتبر علوه أن المشكلة الرئيسية في هذا المجال تقع على عاتق الدولة، التي عليها ملاحقة القاتل، خصوصا أن زعماء العائلات لا يستطيعون في أكثر الاحيان لعب دور الدولة في القبض على القاتل وتسليمه الى العدالة، بل إن دورهم هو تسهيل عمل القوى الامنية ومساعدتها على القيام بواجبها، ويؤكد أن آل علوه على استعداد للقيام بكل ما يرضي أهل المغدورة ويخفف ألمهم.
ويعتبر محمد علي ناصرالدين (أبو مصباح)، أن الفقر المزمن الذي تعيشه المنطقة لا يزال ينتج التخلف على الصعد كلها، ولكن بالرغم من ذلك باستطاعة وجهاء العائلات ضبط الذين يقومون بالتجاوزات، اذا أردوا، وأنه على كل عشيرة وعائلة وضع حد للعابثين بأمن المواطنين من أبنائها، خصوصا ان البعض يساعد هؤلاء على الاختباء وينفي علاقته بالامر، ناهيك عن افتقاد الزعماء القادرين على إحقاق الحق، بل ان الاكثر خطورة بين كل يحصل، هو تجاوز القيم التي فطر عليها ابناء المنطقة، وانهيار القيم الاجتماعية الاصيلة التي حملوها خلال تاريخهم الطويل، وحيث لا بد من عقد اجتماع يحضره جميع فعاليات المنطقة لاتخاذ موقف ومحاسبة الذين يعتدون على حياة الناس وكراماتهم أو إعلان عجزهم عن هذا الامر، بعدما أصبح ذلك خطرا يهدد جميع أبناء المنطقة.
ويعتبر راشد جعفر أن ما يحصل «يؤدي إلى تشويه وجه المنطقة وواقعها الحقيقي وأنه لا بد من أن يكون الدور الحاسم للدولة في مواجهة الجرائم التي تحصل، حيث وصلت حال الاستياء إلى درجة كبيرة جدا، خصوصا أن الامر بات يسبب تعطيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والتخلي عن القيم العشائرية الاصيلة، حيث على كل عشيرة أو عائلة وضع حد للشاذين من أبنائها أو رفع الغطاء عنهم بالحد الادنى»، ويؤكد أن الامور أصبحت بحاجة الى معالجة جذرية ويجب عقد اجتماعات لفعاليات المنطقة، الى أن يتم وضع حد لما يحصل.
ويؤكد د. جلال محفوظ، أن ما يحصل من عدد من الشبان هو «طيش» لا بد من مواجهته من أهالي المنطقة، الذين عليهم تسهيل عمل قوى الامنية التي تواجه الكثير من العقبات عند محاولتها القيام بدورها، حيث إن عنصر الأمن يجد نفسه وحيدا في الكثير من الاحيان، خلال مواجهته مشكلة معينة أو مطاردته لعناصر مطلوبة، أي أن واجب القوى السياسية التي تضع احيانا شروطا على عمل الاجهزة الرسمية، الادارية والامنية، أن تلعب دور المساعد لهذه الاجهزة في سعيها لتحقيق الامن في المنطقة، واذا كان حوالى 55 في المئة من المواطنين قد انتخبوا خط المقاومة لإيمانهم بالحفاظ على كرامتهم، فإن مواجهة التجاوزات والاعتداءات التي تحصل هو شكل من أشكال الحفاظ على الكرامة أيضا من خلال الحؤول دون موت أطفالهم في الشوارع جراء رصاص يطلق خلال الاشتباك بين شبان طائشين.
ويشير صلاح حماده الى أن المسؤولين عن مقتل الفتاة هاشم، هم أشخاص لا علاقة لعائلاتهم بهم، ويحاول تحديد الاسباب التي تجعل منطقة الهرمل عرضة لحال من الفراغ الامني، معيدا سبب ذلك الى أن الدولة لا تلجأ الى اتخاذ خطوات أمنية حاسمة مراعاة لوجود ودور حزب الله في المنطقة اولا، وأن حزب الله بالاساس لا يمكن ولا يريد أن يكون بديلا للدولة ثانيا، حيث يدفع المواطن العادي ثمن ذلك بالنهاية.
ويرى النائب عن حزب الله في كتلة نواب بعلبك – الهرمل السيد حسين الموسوي «أن الموضوع الأمني في المنطقة يبقى مسؤولية السلطة الحاكمة التي لا مبرر لتقصيرها في توفير الأمن للمواطنين في وقت أنجزت المقاومة تحرير الوطن وتقوم بواجب الدفاع عن الكرامة والحرية والسيادة بالتعاون والتكامل مع الجيش اللبناني». وأشار الموسوي إلى أن المقاومة بذلك «لا تصادر دور احد بل تملأ فراغا خطرا جدا نشأ بسبب تقصير الحكومات المتعاقبة في تعزيز الجيش الوطني بالسلاح الذي يمكنه فعلا من الوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي الطامع في أرضنا ومياهنا» لافتاً «إلى أن الفلتان الأمني الحاصل في الهرمل يعالجه بالتأكيد قرار مسؤول من السلطات الأمنية المختصة بالتنسيق مع المعنيين في بعض الأماكن ذات الوضع الخاص المتفق عليه مع القيادة العسكرية». واعتبر الموسوي ان «التقصير الحاصل في الهرمل غير مبرر أبداً ويجب أن تسارع السلطات الأمنية إلى ملاحقة واعتقال ومحاسبة المعتدين على امن اهلنا وكرامتهم والذين سببوا قتل الفتاة المظلومة حنان هاشم»، مؤكداً «ان مدينة الهرمل التي استحقت لقب مدينة الشهداء تبقى لأهلها الشرفاء والأعزاء الذين لن يغادروها أبدا بل هم متمسكون بصخورها وشجرها صفوفا مرصوصة لا يفرقها أحد».
وأخيراً، أما وقد وصل الامر الى حدود التداول في اوساط عدد كبير من أبناء المنطقة العزم على اتخاذ القرار بتسليم مفاتيح منازلهم للسلطات المختصة والمغادرة بحثا عن مأوى آمن لهم، وقد بات الامر يقتضي قرارا حاسما بفرض سلطة الدولة بعد التنسيق مع حزب الله وملاحقة واعتقال الذين يقومون بالتجاوزات والاعتداء على المواطنين دون أي تدخل سياسي أو عشائري أو عائلي.
السفير 29/6/2009
2009/06/29
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق