2008/06/23

مشاهدات من العاصي والهرمل: مملكة السحر والفقر والغبار




شوقي بزيع
لأسابيع خلت لم أكن أعرف عن العاصي أكثر مما تعلّمت صغيرا في كتب الجغرافيا المدرسية. فعن التسمية عرفت انه حمل هذا الاسم لأنه بخلاف الأنهار اللبنانية جميعها يجري من الجنوب الى الشمال. كما عرفت انه ينبع من مغارة الراهب ونبع اللبوة ثم يتجه شمالاً عبر بحيرة حمص ونواعير حماه ليصب في جهات انطاكية. لكن النهر في شقه اللبناني لم يرتبط بالنسبة لي، أنا القادم من الجنوب، بأية إضافة أخرى ولم يكن ليثير في داخلي ما يثيره الليطاني من مشاعر وترجيعات. كنت أعتقد ولا أزال بأن للأنهار مذاقا يختلف عن البحار والمحيطات. ففي حين تنبسط الثانية تحت خلاء مفتوح يتجاوز الأوطان والقوميات وحدود الدول تلتئم حول الأولى كيانات وعصبيات وأعراق وينعقد على ضفافها جسد الجماعة كما ينعقد الجسد على أوعيته وعروقه.
مشهد من نهر العاصي
على ان النهر ليس نشيد الجماعة فحسب بل فيه ما يتصل بحيوات الأفراد وينغلق على قصص حبهم وملاعب طفولتهم وصباحهم ونداءات ذكرياتهم البعيدة ولفح انحنائهم الشجري تحت رياح الفقدان. كأنه المرآة التي يرون في ضوء انحدارها من المنبع الى المصب صورة مصائرهم الفردية وأعمارهم الجارية نحو بحر الظلمات الغامض. كان لا بد إذن ان تدخل الانهار في نسيج التعبير الأدبي شعرا وأدبا ورواية وأن يتحوّل بعضها الى عناوين مختلفة لأجمل النصوص كما هو الحال مع الدانوب والفولغا ودرينا والراين والغانج والنيل وغيرها. ففي كنف تلك الملاحم المائية الدهرية أطلق الإنسان أعذب صرخاته وأمرَّها وتقلَّب على جمر الانتظار وأصاخ الى انعقاد الثمر في الزهر وعاين جسده الغض وهو يؤول الى ذبوله. ومع ذلك فلا الليطاني الذي يتغنّى اللبنانيون “بوطنيته” الصرفة ولا العاصي اللبناني المولّد والمختلط الهوية والنسب حظيا بنصيب وافر من الرواية والشعر ولم يتح لأي منهما ما أُتيح لنهر بويب العراقي الذي رفعه السياب، على قلة غزارته وقصر مجراه، الى رتبة الأسطورة. ورغم ان ديك الجن حوَّل النهر في شقه الحمصي الى مسرح وارف بالظلال لعشقه المشبوب فإنه هو الآخر لم يلتفت بشعره الى العاصي ولم يخصّه بإشارة عابرة.
النهران
كلاهما الليطاني والعاصي لم يحظيا بنصيب يذكر من الأدب اللبناني المكتوب. لكن اللافت في هذا السياق هو ان البلد الصغير الذي طالما ألحّ شعراؤه ومؤسسوه ومطربوه وزجّالوه على التغنّي بالجبال والثلوج والأرز و”فقش الموج” ظل ضنينا على نهريه التوأمين حتى على مستوى الغناء والمسرح والفولكلور الشعبي. والرحابنة أنفسهم الذين تغنوا بعشرات القرى والأماكن ومساقط الحنين والغضب لم يجدوا في أعمالهم الكثيرة مكاناً خالياً لأيّ من النهرين. على ان الغبن اللاحق بنهر العاصي يفوق بكثير ما لحق بنظيره الآخر. فإذا كان الليطاني ولأسباب سياسية وعاطفية و”نضالية” متعددة قد حظي ببعض المشاريع والسدود واستطاع ان يحول الجنوب الغربي الى رقعة واسعة من البساتين الخضراء فإن الناظر الى العاصي من الطائرة او أعالي الجبال لا يرى سوى خيط نحيل من الخضرة يحيط بمجرى النهر في حين تبدو المساحات الشاسعة المتبقية على صورة الصحراء ومثالها.

قبل أسابيع قليلة فقط أتيح لي ان أرى العاصي عن كثب مستجيبا لدعوات متكررة من الصديق الروائي غسان العميري الذي يملك مزرعة على النهر واقعة على الحدود الفاصلة بين سوريا ولبنان. لم يكن النهر وحده هو دافعي لتلبية الدعوة بعد طول تردد بل انعكاس صورة النهر في رواية العميري الأخيرة “الأبواب المرصودة”. ذلك ان الفصل الأخير من قصة الحب المؤثرة التي يعيشها المؤلف مع بطلته السويسرية يتم على ضفة العاصي وفي المزرعة نفسها التي أسسها والد العميري قبل ثمانية عقود. لن أتطرّق في هذا المقام لأحداث الرواية التي يقوم عمودها الفقري على أنوثة الغرب وذكورة الشرق، وفق تعبير جورج طرابيشي، والتي تندرج في سياق روايات عربية مشابهة كالحي اللاتيني وموسم الهجرة الى الشمال، ولكنني أريد الإشارة الى ان علاقة الأدباء الحقيقيين بمساقط رؤوسهم وأعمالهم تنقل عدواها الى القراء بما يثير في هؤلاء الأخيرين رغبة التعرف الى الأماكن التي انبجست منها اللغة ودارت فوقها الأحداث.

لا شيء في الطريق الى الهرمل يشي بوجود النهر بل يشعر السالك هناك وكأنه يذرع صحراء قاحلة من صحارى العرب وفيافيهم الجدباء. حتى إذا ظهر لك مجرى في نهاية المنحدر بدا وكأنه منبتٌّ عن سياقه او كأنه جملة مائية معترضة وسط نص هائل من الجفاف. الهرمل بدورها لا تبدو وكأنها تسند ظهرها الى أحد أكثر أنهار بلاد الشام تدفقاً وغزارة. لا يحتاج الفقر هناك الى من يدل عليه لأن علاماته الفارقة موجودة في الأبنية المتواضعة والشوارع المزروعة بالحفر والمياه المبتذلة وفي الثياب والعيون والقسمات المثخنة بالعوز والمرارة. لا تحتاج العزلة هناك الى أي نوع من الصبار او النباتات الشوكية لكي تتأكد من حولها شبهة الصحراء لأن شوكة القهر مغروسة في العيون والمهج والصدور. في عالم قاسٍ كهذا يظهر الوجه الوحشي لدولة “الاشعاع والإنماء المتوازن” ويصبح احتكام الناس الى عدالة العشيرة والقبيلة والثأر قابلا للتفسير.

حين نصل الى مزرعة العميري، على بعد كيلومترات من الهرمل، نشعر ان ما أسسه والد غسان قبل عقود طويلة كان شيئاً شبيهاً بالفردوس. فتحت ركبتي الشلالات المائية الهائلة التي تنفرج عنها انخسافات النهر يقوم العاصي بتقسيم نفسه الى فروع صغيرة تتخللها أحواض سمك الترويت والغدران المكسوة بالأرز والبط والأشجار المثمرة المتنوعة. وهناك أيضاً دارت طواحين الماء الأضخم في الشرق الأوسط والتي غذت رحاها الحجرية الضخمة مناطق واسعة من سوريا ولبنان وفلسطين. غير ان غسان العميري وقد غاص في سبعينياته وجلّل رأسه البياض لم يعد يجد الوقت والهمة الكافيين لرعاية الطواحين التي ما لبثت ان خلدت الى الصمت ولا لرعاية الأحواض التي خلا معظمها من الأسماك ولا لرعاية المنزل الصغير الذي تخلّعت أسرّته وصدئت أوانيه وأسلم جدرانه الباهتة الى الغبار والذكريات.
الجرد
الزيارة الى الهرمل لا تكتمل إلا بزيارة جرودها، وفق مضيف الرحلة الآخر بومدين الساحلي، الذي أقنعنا بتمديد المغامرة الى اليوم التالي. كان علينا تبعاً لذلك ان ننام تحت سماء العاصي المليئة بالنجوم وعلى مقربة من عويل شلالاته الشبيهة بعويل النواعير. وفي الصباح أطلق الساحلي العنان لسيارته القديمة التي لفَّق لها على مراحل هيكلاً وأبواباً ومحرّكاً من النوع الاستثنائي ثم راحت تزحف صعودا باتجاه الجرود التي تجدد نفسها هضبة بعد أخرى ووادياً إثر وادٍ.

كنت أظن قبل تلك الرحلة ان جرود الهرمل ليست سوى التسمية المجازية المشوبة بالمبالغة والتهويل لبعض المرتفعات المطلة على المدينة، وان هذا البلد الذي لا تتجاوز مساحته الآلاف القليلة من الكيلومترات المربعة لا يمكن ان يشتمل على تلك “القارة” الصغيرة من التضاريس السيفية المباغتة. فوسط متواليات متعاقبة من الجبال الشاهقة والأودية السحيقة لم يكن هناك من أحد سوى بيوت صغيرة ومتفرقة من الاسمنت او الطين تحيط بها قطعان الماعز او الغنم وحقول الحشيشة التي تم إتلافها بالكامل من قبل قوى الأمن وعناصر الجيش الذين رأينا بعضهم بأمّ العين وهم يتلفون ما تبقى من الحقول المنتشرة في أقاصي الجرود.
هناك تبدّت لنا مزرعة “بريصا” بصخورها الدهرية التي نقش فوقها نبوخذ نصر ما يشير الى فتوحاته. ثم انكشف أمامنا بشكل مباغت سهل “مرجحين” الشبيه من حيث تنوّع تربته وألوانه بسهل البقاع والذي تتوسطه بحيرة صغيرة فاتنة يكاد منتزهها المتواضع يخلو من السياح والزائرين. وصولاً الى وادي جهنم الذي تحوّل انهدامه الأرضي اللامرئي الى مهب دائم للرياح وينبوع متواصل للضباب الذي يصعد من الأعماق ملتهماً في طريقه أكثر المرئيات. لم يكن يرى من سير الضنية سوى المنقلب الشرس لظهرها الوحشي فيما تتبدى القرنة السوداء في أقاصى الذرى وكأنها هملايا مصغّرة من الدخان الشاهق. لا أثر في كل تلك المجاهل للإسفلت والطرق المعبدة. في مملكة الشمس والغبار تلك لم يكن ينهض فوق الجبال العزلاء سوى شجر اللزاب الذي يوزع فتنته بتفاوت ملحوظ بين الجذوع الضخمة والملساء وبين الفروع النحيلة الداكنة. وسط تلك التضاريس الشبيهة بتضاريس اليمن كان بشر قليلون يخرجون من بيوتهم الشبيهة بالكهوف مسوقين بدافع الفضول على الأرجح لرؤية السيارة التي يقطع ضجيجها حبل ذلك الصمت المطبق. وفوق تلك المناطق العزلاء أيضاً خطر لنديم زخيا ومعه قلة من الشبان والشابات ان ينشئوا محمية بيئية مدهشة وان يقيموا وسط أجمل غابات اللزاب قرية نموذجية من الشاليهات والبيوت الصغيرة الُمعَدّة لاستقبال الزائرين وطالبي العزلة والراحة.
بصعوبة بالغة أمكن للسيارة المخلّعة التي تقلّنا ان تعود الى الهرمل عبر طرقات ترابية مثخنة بالحجارة والحفر والنتوءات. طرقات شقها الأهالي بأنفسهم في غياب الدولة. وفي غياب الدولة او تواطؤ بعض سدنتها وأربابها رعوا تلك النبتة الخضراء التي عصمتهم من الفقر وأنقذتهم من التهلكة والعوز. كان عليهم ان يتصارعوا لستة أشهر كاملة مع الثلوج والأعاصير ولستة أشهر أخرى مع النسور والكواسر لكي ينتزعوا القليل من خيرات الطبيعة القاسية وثمارها الحرون. كان عليهم ان يصدقوا الدولة التي اقتلعت آخر ما يربطهم بالهوية والأمان ولقمة العيش لتعدهم بزراعات بديلة لم تتحقق وتعويضات تحولت الى سراب. أما أغنية مطربهم الأثير عاصي الحلاني “من الجرد لنهر العاصي/ جايي عالمهرة عاصي” فلم تعد تثير فيهم سوى السخرية والضحك. فالجرد يباب قاحل والعاصي مياه سائبة بلا سدود ولا طواحين، والمهرة بدورها تكشّفت عن حمارة هزيلة تنقِّل قوائمها العرجاء على كتف وادي جهنم!

ليست هناك تعليقات:

شهداء المقاومة..منارات الهرمل


من صور الأصدقاء: جرود الهرمل

جارة العاصي ترحب بكم ضيوفاً.. على الخير دائماً

مسجد الوقف.. الحنين الى الأيام الأولى